أولاً، لا عذر في الانقطاع عن الكتابة:
هذا موضوع آخر من نوع الموضوعات التي قد لا تهم أحداً، وإن كان ولا بد فهي لا تهم المشغولين بالمهام الكبرى والشؤون العظمى من الناس، بل قد لا تهم إلا أولئك الباحثين عن لحظة إلهام فيما يبدو هامشياً ومهملاً.
فبعد أسبوعين من التعثر في الوصول لقراء (الجزيرة) بسبب فشلي الذريع في إدارة الوقت وتأخري في إيصال المقال، وبسبب فشلي أيضاً في كتابة ما هو قابل للإجازة من مقالات السياسة والاجتماع وخصوصاً ما يتعلق بشؤون النساء، فقد استحييت من القراء على مواصلة الغياب خاصة وقد لمست من إدارة التحرير ذلك السلوك الحضاري المتمثّل في الاتصال بي لتوضيح أسباب حجب المقال. وهذا مقال ليس لتزجية الوقت بالضبط، ولكنه يحتمل أن يكون محاولة للتأمل في التحولات حولنا غير السياسية.
* * *
ثانياً، الكيد للمسافة بالأشواق:
لطالما شعرت أن لدي طاقة استثنائية في القوة والمضاء وكأنها قوة سحرية لا يبطل مفعولها تعمل على تخفيف حدة الفراق ومعاندة بعد المنال وذلك بملكة الكيد للمسافة بالأشواق وبقدرة طي حبال البعد بالحنين. فمن خلال مد عرائش الأشواق تتضاءل المسافة وعن طريق العربشة على مدات الحنين تنكمش حبال البعد.
حين غادرت حضن أمي لأول مرة وأنا بعد طفلة صغيرة لأنام بعيداً عن وسادة ريش ساعدها بحثاً عن علاج، كنت أستطيع برفة شوق أن أطير فوق تلك الجبال المكسوة بقسوة ثلوج تشرين وكانون وشباط من جبال بلاد الشام وجبال الألب لأغمس روحي في بطاح حنانها وأرسل شموس الرياض وجدة الحراقة تذيب المسافة.
وإذا كان سكايب وكل نقاط التجمع الإلكتروني الأخرى لشتى أنواع اللقاءات البشرية المستجدة اليوم على مدار الساعة قد بدأت تقترح على الأجيال المخضرمة والصاعدة معاً مفاهيم جديدة للجغرافيا وخرائط جديدة للأرض، فإن ذلك لم يكن ممكناً لو لم تكن هناك شلالات جارفة من الأشواق وبحور زابدة من الحنين بما جعل تغيير وسائل الاتصال تغييراً جذرياً هي الأم لتلك الحاجة الماسة إلى اختراع يقلب مقاييس القرب والبعد. وهي حاجة تعددت أشكال الاستجابة لها من تجارب المكر الأولى بالبعد وبالمسافات وبالجغرافيا عن طريق التخيل ومحاولات التحليق إلى محاولات الاستحضار بالصورة أو بالصوت، بل وبالتجسيد الحي. وقد طالت وتصاعدت تواريخ تلك المحاولات الجارحة للتعامل مع أوار الشوق ومكابدات الحنين من قبل أول رسالة حملها الحمام الزاجل أو سكبت في قارورة لتحملها الأمواج مروراً بأخيلة بساط الريح ومحاولات عباس بن فرناس للانعتاق من الجاذبية إلى ما بعد نجاح الأخوين رأيت في إعادة الاعتبار لحدس تلك المحاولة الباكرة، ومن عين القمرة (الكاميرا) التي اكتشفها ابن الهيثم ليكيد لتجربة السجن بالحرية، مروراً بنجاح لويس داجير وجورج إيستمان في إرساء تجارب التصوير الفوتغرافي، وكذلك من تجارب جراهام بيل وانتنيو ميوتشي إلى مارتن كوبر/ في محاولة مد جسور الصوت والكلمة عبر الهاتف والجوال، ثم ضربة تيم بيرنرز لي مخترع شبكة الإنترنت العالمية التي شقت عصا الطاعة نهائياً على الارتهان البشري لحدود المكان أو القبول بسلطان الحواجز، وصولاً لعاشق التفاحة الثالث ستيفن جوبز بما غير جغرافيا البعد والقرب تغييراً جذرياً وأعاد موضعة المسافات بالصوت والصورة والتجسيد الحي. وإذا كان ليس إلا حفنة من الشعراء والرومانسيين قد يتنكرون كما أفعل الآن لواقع أن قوانين المصالح والقوة هي الدافعية الحقيقية الأولى والأخيرة وراء مجمل الكشوف التي غيرت وجه الجغرافيا والتاريخ معاً مثلما كانت تفعل رحلة الشتاء والصيف بالجزيرة العربية ومثلما فعل اكتشاف رأس الرجاء الصالح ثم اكتشاف بدائله، فإن ليس إلا من يلمس بحواسه الست ما ترتكبه احتدامات الأشواق وفداحة الحنين عبر وسائل الاتصال من جرأة غير مسبوقة في تجديد محددات العلاقات الإنسانية من أبسط العلاقات الحميمة كعلاقات الحب والزواج إلى أعقدها كالعلاقات السياسية وتغيير الأنظمة. هذا غير التحدي اليومي الذي تخلقه يومياً للشعراء والكتّاب وللغةالشفهية والمكتوبة والرمزية ليس فقط لإيجاد لغة ورموز تستطيع أن تعبّر عن المعاني والمضامين الجديدة التي تتفجر من تجددها اليومي، بل وأيضاً لإيجاد أوعية معرفية تضاهيها في الجدة. فلا أظن أن القصيدة أو الرواية أو المحاضرات الأكاديمية أو سواها من أشكال الشعر والنثر المعروفة تملك خياراً إلا أن تكتشف نفسها من جديد وتعيد النظر جذرياً في موضوع الإبداع وفي الذات المبدعة أمام هذه التحولات الجارفة في العلاقات بين البشر عبر الأرض برمتها.
****
ثالثاً، تحدٍ ليس أخيراً:
مع بداية كل فصل دراسي جديد أجد نفسي في تحدٍ متجدد أمام مهمتي الأكاديمية في التدريس. لقد قلت لطالباتي قبل عدة سنوات. لم يعد الأستاذ الجامعي كما كان الأمر في الماضي سلطة معرفية يرجع إليها الطالبات والطلاب في استسقاء المعرفة العلمية وفي تحديد الخطأ والصواب، بل إن الأمر لا يجدي إذا لم نلحظ بعين مبصرة أساتذة وطلاب وإدارة بأن التعليم عامة والتعليم الجامعي خاصة لم يعد ممكناً إلا على أرض ديموقراطية، حيث نزعت وسائل الاتصال الحديثة السلطات التقليدية للعملية التعليمية أي كان موطنها وإن كان في دول أوتوقراطية وحولتها بالضرورة إلى حالة من الشراكة الديموقراطية بين الطالب والأستاذ. فالأستاذ الذي لا يدرك أن مهمته أعمق من مجرد إعطاء معلومات من السهولة بمكان أن يصل إليها الطالب عبر مفاتيح الكمبيوتر، فإنه لن يملك من ملكة التحدي المعرفي ما يجعله قادراً على أن يكون أستاذاً جامعياً لمرحلة ما بعد ثورة الاتصالات. وفي هذا أرى أن تطوير الأستاذ الجامعي وقياس الجودة الأكاديمية تتجاوز شرط إتقان استخدامات الأدوات التقنية الحديثة كالسبورة الذكية والتواصل الإلكتروني مع الطلاب كما يجري لدينا، لتشكل تحدياً معرفياً وعلمياً وسلوكياً للأستاذ وللمؤسسة الأكاديمية في كيفية تقديم عملية التعليم الجامعي بروح ومضامين وطرائق تعليمية جديدة تضاهي جدة الأوعية التقنية.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid