تعرفت على السيد مارتن في الجامعة بعد مخاصمة عرضية ذات يوم دراسي لاختلاف حول تدريس أحد مواد اللغة الإنجليزية. فدفعني إصراره على موقفه على إعادة التفكير في موقف هذا الرجل العنيد لأن من عادة الوافدين الأوربيين عدم النقاش والتماشي مع التعليمات بهدوء يصل في أحيان كثيرة لعدم الاكتراث.
.. فبدا لي موقفه شاذاً وغريباً بعض الشيء. التقيته مرة أخرى أمام مكتبه فدعاني لفنجان شاهي في كوب «ماصه موص» ولم يغسله بماء من جيك لا أعرف مصدره. فقلت لنفسي هذا الخواجة فريد من نوعه وغريب إلى حد الطرافة فدعوته لمكتبي فيما بعد وتعمدت أن افرّك كوب الشاي أمامه بالماء والصابون وهو يراقبني ويضحك ويقول الصابون يقضي على مناعتك.
الصابون فعلاً قضى على توجسي من تلك الكائنات التي يشوب بياضها حمرة زهرية تجعلنا نخاف ونبتعد أحيانا، فتوطدت علاقتي به واستمرت لمدة تزيد على أربعة وعشرين عاماً كانت هي مدة عمله في السعودية قبل أن يغادر وللأسف ليس إلى أيرلندا حيث يقيم أهله وأخوه صاحب تجارة السيارات بل إلى فرنسا حيث اشترى شقة صغيرة في بلدة ساحلية. فهو لم يكن يطيق بعض جوانب شخصية أخيه الثري الطماع بائع السيارات، لم لا والسيد مارتن يربط أي نوع من التجارة بالاضطرارحتما للكذب وعدم الأمانة.
كان السيد مارتن كاثوليكياً متزمتاً قبل أن تقلبه أجواء لندن،- حيث عمل ودرس في الوقت ذاته-، إلى كاثوليكي اشتراكي، ثم إلى كاثوليكي اسمي فقط بعد أن عرف أن الإنجليز ينظرون للأيرلنديين نظرة غير تلك التي ينظر بها الأيرلنديون لأنفسهم. كانت بداية طلاقه مع التزمت الديني اقترانه بسيدة مصرية أرثودوكسية حببت له الشعوب الأخرى بعد أن أتعبه التعايش مع نفاق بني جنسه. غادر إلى إفريقيا عريساً في عز شبابه، نصف مبشر نصف ثائر، وعمل في تعليم الأفارقة وبناء المدارس لهم. فاضطرته الظروف للذهاب لجنوب أفريقيا العنصرية، وعقب نقاش حول العنصرية في حانة، أذاقه عنصريو جنوب أفريقيا علقة عنصرية ساخنة جدا وكادوا أن يعتدوا على شرف زوجته الشابة، فاقتنع بعدها أن الأفريقي البدائي أكثر تحضرا من كثير من البيض الذين تتوارى وحشيتهم خلف بعض القشور المظهرية الواهية. فغادر جنوب أفريقيا إلى بلد أفريقي اشتراكي آخر فوجده رأسماليا أكثر من جنوب أفريقيا العنصرية حيث عبودية القرون الوسطى. فقرر البحث عن عمل في أي مكان آخر.
وجد السيد مارتن إعلاناً عن وظيفة مدرس في المملكة وكانت فكرته عنها هي تلك التي قرأها في صحف لندن، ولكن لم يكن أمامه أي خيار آخر فقدم للسعودية لوظيفة وقتية استمرت طيلة حياته العملية.
علمت الحياة السيد مارتن أن المظاهر والشكليات تخدع, وزودته بقدرة عجيبة على أن يبحث عن جوهر الناس وألا ينخدع بطريقة تغليفهم لأنفسهم وإخفاء سرائرهم، لذا لم يجد السيد مارتن صعوبة في التأقلم مع الشعب السعودي الذي كان زملاؤه يرونه، كما ذكر هو، أنه مكون من لونين فقط: الأبيض للرجال والأسود للنساء. وبما أن السيد مارتن قد تشرب قناعات قوية بأن للبشر معدنا واحدا، لا فرق بينهم، وأن ألوانهم وأزياءهم وعاداتهم ما هي إلا أشكال متعددة لجوهر واحد، فلم يجد صعوبة في التأقلم الحقيقي مع شعب المملكة.
لم يكن للسيد مارتن ولد، وأمام إصرار زوجته الصعيدية الأصل، رحمها الله، اتفقا على تبني طفل وبحثا فلم يجدا طريقة مشروعة لتبني طفل إلا من سرلينكا، وبعد مخاطبات مع حكومة سيرلنكا، ودفع ثمانية آلاف دولار، توجها إلى أحد ملاجئ الأيتام هناك، وتخاصما. السيد مارتن يصر على تبني أول طفل في القائمة، وحرمه ترى أن الاختيار ضروري، فأصر على رأيه لاعتبارات إنسانية، فوقع النصيب على طفلة بين الحياة والموت من سوء التغذية، شديدة السمار، وأحد عينيها مغمضة، فجن جنون الزوجة التي حلمت كأم ولو بالتبني بطفل جميل يؤنس وحشتها.
لحسن الحظ اتضح أن عين الطفلة سليمة وأنها مغمضة بسبب سوء التغذية، لكن سمار الفتاة تسبب في مشاكل مع أهل الزوجة في مصر الذين قالوا لها: صمتي الدهر وافطرتي على بصلة، ما هذه السويداء النحيلة. كانت تلك العبارات كافية لأن يقطع السيد مارتن علاقته بأنسابه في مصر. وزاده ذلك حباً للفتاة المسكينة التي كان يصرف عليها معظم راتبه فتفتقت عن فتاة جميلة، تتكلم الفرنسية من مدرستها الفرنسية في الرياض، وتعزف الموسيقى بسبب الدروس الخاصة، وبطلة للسباحة في مدرستها. فقد تحولت، سبحان الله من فتاة قريبة من الموت في الملجأ إلى فتاة تملك كل مقومات الحياة العصرية.
أحب السيد مارتن المملكة ولم يقبل أن يتعرض لها أي من زملائه الخواجات بنقد أو قذف. و رغم كونه كما يقول يدين بالإنسانية فقط، كان يدافع عنها وعن الإسلام عبر مواقع الإنترنت. كان صديقا للفوالين وباعة المطبق، وخبز البر، وعرف البطحا والحراج أكثر من السعوديين، وكانت له علاقة طيبة مع جيرانه، ومع المسجد «المملوكي» المجاور الذي لا يكف عن التغزل بعمارته.
كان للسيد مارتن مجموعة من عشاق الصحراء، يهيمون فيها كل نهاية أسبوع ولديهم خرائط ومخططات لها، وكان يعشق النوم تحت النجوم وبين الجبال، وكان دائما يردد بلادكم من أجمل بقاع الأرض ولكنكم تسيئون لها. كانت هذه المجموعة من الوافدين الغربيين تقيم مسابقات بين أفرادها لتنظيف المواقع التي يكشتون فيها، يفعلون ذلك احتراماً للطبيعة الذي يصل حد التقديس أحيانا. فلا يقصون شجرة، ولا يقلعون نبتة، ولا يؤذون ذات نفس.
توطدت علاقتي بالسيد مارتن داخل وخارج الجامعة، وكنا نتبادل الزيارات الأسرية وكشتنا معه مرة أو مرتين لنجرب مكشات الخواجات، وكان يريد لابنته أن تختلط بابنتي وزميلاتها ليكون لها صديقات سعوديات يعلمونها لبس العباية، كما كان يداعبنا. وكان يحرص على تهنئتنا في جميع أعيادنا وفي دخول شهر رمضان. وذات مرة في زيارة لمنزله ذهبت إلى حمام بيته الصغير، ولفت انتباهي وجود طشت في «البانيو» و ضع بشكل غريب، أثار فضولي فسألته عنه، فأجابني: هذا الطشت يجمع الماء الذي نستحم به لنعيد استخدامه في السيفون، بلادكم بلد صحراوي والماء يكلفكم كثيرا فلا بد من الحفاظ عليه، فنحن نعيد استخدام ماء الاستحمام والغسيل للسيفون!!
قبل سنوات مرضت السيدة مارتن بمرض خبيث، وخضعت لعمليات جراحية متعاقبة مع معاودة انتشار هذا المرض في جسدها الضعيف النحيل. ساءت حالتها النفسية لأن الأطباء قالوا لها إن أملها في الشفاء ضئيل، فاستمر هو يقنعها ويقنع نفسه أن الأطباء يهولون ودائما ما يخطئون. تطلبت العناية بالزوجة الكثير من الجهد والسهر حيث تردت أحوالها إلى درجة كبيرة لم تعد معها تسيطر على حاجاتها الرئيسة، فاضطر لطلب إجازات مقطوعة متعاقبة للعناية بها حتى استرد الله أمانته، فأصر السيد مارتن على دفنها في المملكة لأنها أفضل أرض عاش بها.
اعتصر الحزن السيد مارتن بوفاة رفيقة دربه الطويل المتعرج، فبات لا يطيق البيت الصغير الذي جمعهما سويا، فاضطر لمغادرة المملكة إلى الخارج مع ابنته بالتبني، التي تفتحت عيناها في المملكة وكانت تراها وطنها الأم. غادر السيد مارتن فأحسست بفقده مع الوقت، لأنه كان يشعرني بإنسانية الحياة في كل مرة أقابله فيها. غادر ولم تفلح حتى الآن محاولة الاتصال به، هاتفه السعودي مغلق، وبريده الإليكتروني معطل، وبقيت الذاكرة هي الوسيلة الوحيدة للتواصل معه. قصة السيد مارتن تذكرني دائما بأن لكل اللحظات، سعيدها وتعيسها نهاية حتمية.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif