هل يوجد مشاهدون للتلفزيونات الرسمية في زمن ثورة الاتصالات وتزاحم الفضائيات والإنترنت والتدفق الهائل للمعلومات من كل حدب وصوب؟! وهل يدرك القائمون على هذه المحطات التلفزيونية الرسمية حجم الحصار الذي يجد المشاهدُ نفسَه إزاءه وهو يحاول أن يستقر على محطة من المحطات المتنافسة الجذابة أثناء تنقله بلمح البصر من محطة لأخرى بضغطة زر من الريموت كونترول؟
من المؤكّد أن القائمين على شؤون المحطات التلفزيونية الرسمية يدركون كل ذلك، لكن الوظيفة العامة قاتلة. فموظف القطاع الحكومي، أياً كان مستواه الإداري أو الفني، يجد نفسه أمام العديد من المعوقات التي لا يستطيع تجاوزها والتغلب عليها لأنها من اختصاص جهات أخرى تتمسك باختصاصاتها. وهكذا يدب الإحباط في نفس الموظف العام، وقد يستسلم أمام تلك المعوقات بعد أن يصل إلى قناعة بأنَّ ليس بالإمكان أحسن مما كان، فيصبح عمله مجرد «أكل عيش»!
مشكلة المحطات التلفزيوينية الرسمية أنها لا تستطيع التخلص من النبرة الدعائية المباشرة «البروباجندا»، ولذلك فهي تفسد حتى الإنجازات الحقيقية للحكومة التي تتحدث بلسانها، فضلاً عن الإنجازات الوهمية التي يعرف الناس أنها غير صحيحة. لذلك ينصرف المشاهدون عن متابعة التلفزيونات الرسمية، خاصة بوجود المحطات البديلة الذكية التي قد تكون لها أجنداتها الخاصة لكنها تتعامل مع اللعبة الإعلامية بذكاء فلا يشعر المشاهد أنها تستغفله وتستهبله.
المثال الكلاسيكي على المحطات الرسمية الذكية محطة الـ «بي بي سي» البريطانية التي تبث بعدة لغات والتي يعرف الجميع أنها ليست محطة تجارية خاصة، ويتم تمويلها من الخزينة البريطانية العامة. ويجزم كثيرون أن هذه المحطة كانت تخدم بريطانيا والحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية لكنها كانت تتظاهر بالبراءة. ورغم ذلك ما زالت هي الأكثر جذباً للمشاهدين على مستوى عالمي.
وفي السابق كانت هناك محطة «صوت أمريكا» الإذاعية، وهي محطة كانت تخدم مصالح أمريكا بذكاء وكان المستمع العربي يلتقط بثها الإذاعي ويقرأ مجلتها الشهيرة «صوت أمريكا» التي كانت تصدر باللغة العربية على غرار مجلة «هنا لندن» التي كانت الـ «بي بي سي» العربية توزعها مجاناً لمن يرغب الحصول عليها.
ثم في عصر تفجر البث الفضائي التلفزيوني جاءت قناة «الحرة» لتزاحم القنوات الأخرى العريقة وتبدو ظاهرياً محايدة بينما هي في الواقع تخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وتروِّج لها دون أن تتورط بأسلوب الدعاية المباشرة التي تُنَفِّر المشاهد.
في مقابل ذلك نجد أن محطات الإذاعة والتلفزيون العربية الرسمية ما زالت غير قادرة على التخلص من نبرتها الرسمية. ورغم التحسن الذي طرأ عليها بسبب توسع الخيارات أمام المُشاهد العربي فهي ما زالت أسيرة الأسلوب المباشر في الدعاية الرسمية لدرجة تشويه المنجزات التنموية لحكومات تلك البلدان عندما تتناول هذه المنجزات على نحو تبدو معه وكأنها تستكثر على نفسها تحقيق هذه المنجزات وأحياناً كأنها تمن على شعوبها!
أنني أعتقد أن المحطات الرسمية يمكن أن تحتفظ بدورٍ مهم على الساحة الإعلامية، لكن عليها أولاً أن تدرك التغيّر الكبير الذي طرأ على ذهنية ومزاج ووعي المشاهدين، وعليها ثانياً أن تغيّر تناولها الإعلامي وفق ذلك، إن هي استطاعت!
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض