قبل أشهر ناقش مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني قضية في غاية الأهمية، بل هي من أخطر القضايا التي تتهدد الوعي وبناء الوطن والمتمثلة في: (داء العصبية القبلية، والإقليمية، والمناطقية)، إلا أن الموضوع رغم أهميته لم يشبع دراسة وتمحيصاً، ولم يَخرج هذا النقاش بأي وصايا حكيمة، أو توصيات علنية تكشف الخطر وتشخص الحالة وترفع للجهات المختصة التقارير اللازمة ليتم العلاج بسرعة وحكمة.
وأبرز نتوءات، أو أوتار هذه القضية الراهنة هو الوتر الثالث المتمثل في عنصر “المناطقية” المؤذي الذي ثبت أنه لا يقل خطورة عن عنصري القبلية والإقليمية.. فداء المناطقية يمكن أن تكتشفه بسهولة، ولا يحتاج إلى زيارة طبيب أو إجراء فحوصات، أو تحاليل، فكل ما عليك هو أن تتطلع إلى أي منطقة لتجد أن بعضها تتميز وتزدهر وتتشبع بحجم ما يوليه الموظفين والقياديين المنتسبين لها عن سائر المناطق الأخرى.
وقد تجد أن بذور المناطقية المؤذية تنتشر في بعض الإدارات الحكومية بل والقطاع الخاص من قبيل ارتهان الوظائف والاستحواذ على القرارات، وتوفير الخدمات وتسهيل أمور المنطقة التي ينتمي إليها المدير أو الرئيس أو أي مسؤول، أو تكريس فكرة المنفعة لذوي القربى وأهل المنطقة حتى وإن كان على حساب احتياجات جهات تنتظر التنمية والبناء.
ولا شك أن داء “المناطقية” يعيق بناء الوطن وتنمية قطاعاته المختلفة بعدل وتوازن، ومن أمثلتها الأليمة: تهميش مطالب الآخرين والتقليل من شأنهم، والحد من تشجيع المشاريع التي يتطلعون إليها، بل تصل أحيانا إلى شح أو ندرة الترقيات الوظيفية على الرغم من أنها حق مشاع للجميع، إلا أنها للأسف لا تتطابق مع ربابنة “المناطقية” الذين لا يقيمون أي وزن أو معايير جادة وعادلة.. فالأولوية بالنسبة لهم هي لمن هم من أهل منطقة ما، أو مدينة ما ينتمي إليها هذا المسؤول أو ذاك!!
ولكي تكتشف خطورة “المناطقية” فما عليك إلا أن تتأمل الوظائف لتجد أن مدير قسم صغير أو شعبة محدودة الأثر يتسنم وظيفتها شخص بالمرتبة الثانية عشرة لأن المسؤول المركزي أراد لها ذلك، فيما يقابلها في مدينة أخرى وفي نفس التخصص والمجال المرتبة الخامسة أو الرابعة، وعليك أن تقيس هذا الأمر على الكثير من الخدمات والإدارات والمنشآت والمدارس بأنواعها.
حتى أنك ترى في بعض تلك المدن المنغمسة بالمناطقية أنها لا تعرف أي نقص في الكوادر، أو نقل، أو ندب، أو دوام بما يشبه السفر من أجل وظيفة، لأن الأمور ميسرة، والوظائف متوفرة لهذه المنطقة عن سائر المناطق الأخرى.
فحري بالمركز الوطني للحوار أن يهب مرة أخرى لتمحيص هذه الظاهرة وتسليط الضوء عليها والسعي إلى التقليل من أخطارها من خلال دراسات علمية جادة وبحوث ومراكز قياس تحقق في الفرضيات التي قد يقال عنها إنها خارجة عن نمط الوطنية، أو ربما تدعو إلى التعصب، وحب الذات والمنطقة والنرجسية المفرطة، لعلنا ننجح في محاربة هذه الخصلة، وتقديم رؤية إيجابية ترسخ لنا توازن القيم والعطاء والخير الوفير في بلادنا.
hrbda2000@hotmail.com