تصفحت جدول اختبار الفصل الدراسي الأول لإحدى المدارس المتوسطة والثانوية، وأول ما لفت نظري قلة المواد الدراسية التي يختبر فيها الطلاب مقارنة بما كان سابقا، حيث جرت العادة أن كل يوم من أيام الاختبارات لا يخلو من مادتين، سألت أحد مديري المدارس لماذا خلا جدول الاختبار من مواد دراسية مهمة رئيسة؟ تأتي أهميتها من كونها مرتبطة بهوية الطالب، فأين اللغة العربية وفروعها (القواعد، النصوص، البلاغة والنقد، المطالعة، الإملاء)؟ هذه المواد تعد رئيسة لكونها وعاء اللغة العربية ومحضن فنونها وآدابها، هذه المواد تعد أداة التواصل والتفاهم والتعارف، وفي الوقت نفسه في هذه المواد المحتوى اللغوي بصوره العلمية والجمالية، كما خلا الجدول من مادتي التأريخ والجغرافيا؟.
وكان جواب مدير المدرسة صادما صاعقا، في نبرته ألم وحسرة، يقول: رحم الله اللغة العربية، فقد قزمت وشوهت واختصرت، قزمت أمام اللغة الإنجليزية، وشوه محتواها، واختصرت موادها، سألته ما دليلك على التقزيم والتشويه والاختصار؟
قال: يتمثل التقزيم في الانطباع الذي بدأ يتشكل في وجدانات الطلاب عن اللغة العربية، فكون الطلاب لا يختبرون في مواد اللغة العربية مع نهاية كل فصل مقارنة باللغة الإنجليزية، ولد لديهم شعورا بعدم أهمية اللغة العربية، وأنها أضحت مادة ثانوية، ويرجع سبب ذلك إلى التوجيه الذي صدر بأن يكون اختبار اللغة العربية وفق مفهوم التقويم المستمر، حيث يختبر الطلاب خلال كل فصل ثلاثة اختبارات منفصل كل منها عن الآخر، لكل اختبار خمسون درجة، مع نهاية الفصل تقسم الدرجات التي تحصل عليها الطالب في الاختبارات على ثلاثة، ونتيجتها هي الدرجة النهائية للطالب، لهذا لم تعد اللغة العربية تلقى الاهتمام اللائق بها من الطلاب، لأن كل جزء يختبر فيه الطالب، تطوى صفحاته، ولا يلتفت لها الطالب أبدا طالما أنه حقق درجة النجاح، ومن أوضح الدلائل على عدم اهتمام الطلاب بالعربية ضعفهم العام في مهاراتها، فمهارة الكتابة قل أن تجد الخط المقروء، بل جلها رديء سيئ لدرجة يتعذر معها قراءة الخط ومعرفة مضمونه، والضعف ينسحب على مهارات القراءة والتحدث والاستماع فضلا عن بقية المهارات اللغوية الأخرى.
أما التشويه فيتمثل في المحتوى المعرفي لمقرري لغتي الجميلة، ولغتي الخالدة، حيث اعتمد المنهج التكاملي الذي تقوم فلسفته على تدريس كل فنون اللغة العربية ومهاراتها من خلال نص واحد، حيث يفترض أن يشتمل النص على أكثر من فن من فنون اللغة، في هذا النص يدرس الطالب مهارات القواعد والبلاغة والنصوص والإملاء، ونظرا لتعذر الحصول على النص الأصيل، تم الاستعانة بنصوص مصنوعة متكلفة تخلو من جاذبية النص الأصيل وجماله.
أما الاختصار فيتمثل في دمج كل مواد اللغة وفنونها في عنوان واحد، لغتي الجميلة، ولغتي الخالدة، والكفايات اللغوية، واختصرت درجة الاختبار التي كانت تشكل ستمائة درجة لفروع اللغة العربية اختصرت إلى مائة درجة، أليس هذا مدعاة لإهمال اللغة العربية والتساهل فيها؟
كل الأمم التي تحترم نفسها، وتعتز بهويتها، وتثق بقدراتها، لا يسعها إلا أن تحترم لغتها، وتعنى بها أيما اهتمام، لأن اللغة جزء رئيس في تكوين الهوية والشخصية، ومن يتخلى عن لغته أو يتساهل بها، يسهل عليه التخلي عن هويته.
كثيرة هي الأمم التي تعتز بلغتها وتثق بها، أذكر أن وفدا من وزارة التربية زار اليابان، وخلال الجولة زار الوفد مدير جامعة طوكيو وفي اللقاء معه رفض أن يتحدث إلا باللغة اليابانية، على الرغم من اتقانه اللغة الإنجليزية، أين هو من ذاك الذي بالكاد يعرف كليمات ويسابق في التحدث بالإنجليزية لأجل التماهي والتباهي بها.
assahm@maktoob.com