كلما رأيت إحدى الدول تتقدم في محفل دولي سألت نفسي: لماذا تلك الدولة وليس وطني؟ لماذا تقدمت الدول الآسيوية مثل سنغافورة وماليزيا وغيرهما من النمور الآسيوية التي عملت عشرات السنين وتقدمت، في حين ما زلنا نحن متراجعين في كثير من المحافل؟
لماذا تقدموا هم وتراجعنا نحن؟ ما الذي ينقصنا؟ هل هو المال؟ كلا فقد منّ الله علينا بنعم كثيرة، وفي مقدمتها آبار النفط التي على الرغم من أنها المورد المالي الوحيد حالياً لنا إلا أنها جعلتنا من أغنى دول العالم، هل تنقصنا الموارد البشرية؟ كلا فنحن من الدول التي تحظى بنسبة عالية في ارتفاع معدلات السكان بشكل سنوي، فهل تنقصنا الكفاءات؟ كلا فلدينا العديد من الكفاءات التي تحقق الإنجاز تلو الآخر في المحافل الدولية، وقبل ذلك وبعده لدينا تاريخ وحضارة إسلامية استطاعت أن تنشر العلم والمعرفة والرقي والازدهار في العالم أجمع فقد كنا قبل قرون عدة في مقدمة الركب واليوم نحن في المؤخرة.
والسؤال الذي يتردد دائماً: ماذا يلزمنا لنعود ونقود العالم؟ وقد أُتيحت لي الفرصة للاطلاع على حوار تم مع الدكتور محمد الكثيري عبر مؤلفه (التحول نحو العالم الأول)، وفي إجابة له عن تساؤل بشأن تجربة سنغافورة، وما الذي جعل تلك التجربة موضع إعجاب كبير حتى على مستوى بقية النمور الآسيوية.. وهل ستبقى أنموذجاً للمشاريع الوطنية الآخذة في النهوض والحالمة باكتساب التقنية العالية والصناعات التصديرية كثيفة المعرفة؟ أشار إلى أنه “بالتأكيد إن سنغافورة بوصفها جزيرة صغيرة، لا تعادل مساحتها مساحة واحد من أحياء الرياض، وقد كانت تتقاذفها أمواج الاستعمار والنزاعات الداخلية وخلافات الجوار، لكنها استطاعت خلال فترة وجيزة أن تحقق تلك الإنجازات الهائلة لدرجة أنه أصبح يقام بها أكبر منصات للنفط ومؤسسات المال وغيرها. إن سنغافورة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الدول الآسيوية، تمثل أنموذجاً واضحاً بل حالة دراسية تنموية جمعت كل الشروط والعناصر المطلوبة للتحول التنموي، من وضوح الرؤية ووجود المؤسسات والأجهزة القادرة على تحويل تلك الرؤية إلى واقع وإيجاد العنصر البشري المؤهل والقادر على لعب الدور المطلوب منه، إضافة إلى توافر عناصر الشفافية والمساءلة ومساهمات القطاع الخاص ودوره التنموي، وكذلك العمل الجاد لتغير ثقافة المجتمع السنغافوري كي يكون قادراً على المجاراة والتكيف بل الدفع ببرامج التنمية وخططها”.
يقول رائد التحول السنغافوري الكبير وقائدها السيد لي كوان يو وهو يقيِّم تجربة العملاق الآسيوي “الحث والإقناع لا يكفيان وحدهما. كنا بحاجة إلى مؤسسات حسنة التنظيم، مؤهلة الكوادر، جيدة الإدارة والتوجيه، لمتابعة وتطبيق ما نلقيه من خطب تحث وتثير وتنصح”. ويلفت الانتباه “قررنا تركيز جهدنا على الحيتان الضخمة واللصوص الكبار، ووجهنا مكتب التحقيق تبعاً لأولوياتنا، كما شرعنا بالنسبة للأسماك الصغيرة بتبسيط الإجراءات وإلغاء الممارسات السرية عبر إعلان خطط إرشادية واضحة وجلية”. ويستذكر “التأقلم مع الوضع الجديد كان أمراً صعباً، لكن يتعذر اجتنابه، ونجمت عنه أحياناً مفارقات كوميدية، بل حتى عبثية؛ إذ لم يتحمل بعض مربي الخنازير فراق حيواناتهم، فحملوها معهم إلى شققهم في المباني العالية، وشوهد العديد منهم وهم يحاولون إقناع خنازيرهم بصعود السلالم..”.
وعلى الرغم من أن المؤلف أشار إلى أن هناك ستة عناصر لمتطلبات التحول، هي “الرؤية والمؤسساتية، وصناعة الإنسان، والشفافية، وتنموية القطاع الخاص، والثقافة المجتمعية)، إلا أن السر الكبير في تلك التجربة السنغافورية كان باختصار قائماً على تهيئة وتحضير العنصر البشري، وهي الخطوة الأهم في أي تحول مطلوب.
ونعود مرة أخرى للسؤال: ما الذي يمنعنا من صنع ما صنعته النمور الآسيوية، وخصوصاً في ظل توافر الإمكانات كافة؟ والإجابة هي أننا نحتاج إلى مشروع متكامل وبرنامج عمل شامل، يترجم الآمال والتطلعات والأماني إلى واقع عملي تطبيقي مصحوب بتغير في ثقافة المجتمع وسلوكه، مثل طبيعة ثقافة العمل والانضباط والاحترام والتقدير والنزاهة والأمانة وغيرها من السلوكيات التي تعد أسساً مهمة للتعامل مع متطلبات التحول ومعطيات التنمية. نعم، هناك مشاريع ناجحة وبرامج نموذجية مثل بعض الشركات والهيئات التي خلقت لنفسها نظاماً وبيئة مستقلة ومعزولة عن الواقع العام، غير أنها - وكما ذكر الكاتب - أشبه ما تكون بجزر متطورة في بحر من التخلف الإداري والمالي.
إننا في حاجة ماسة إلى أن نطلق برنامجاً تنموياً شاملاً لمرافق الحياة كافة، يعتمد بشكل رئيسي على رؤية شاملة تُحدث نقلة جذرية ونوعية في واقع حياتنا، ويستشعرها كل فرد على أرض الوطن. وعلى الرغم من أننا تأخرنا كثيراً في الإقدام على مثل هذه الخطوة إلا أن التحرك الآن خيرٌ من مواصلة الهرولة في المكان نفسه لنجد أنفسنا بعد سنوات نحلم بالتقدم نحو العالم الأول ونحن ما زلنا في موقعنا.