الجميع يشتكي من الإعلام في هذا العالم.. من رئيس إلى وزير إلى مدير إلى رئيس شركة إلى أقل عناصر الإدارة في هياكل الدولة وسلالم التوظيف الخاص.. ولماذا هذه الشكوى المستمرة التي تأتي مجلجلة أحياناً وصامتة أحياناً ومكظومة في أحيان أخرى.. من اخترع هذا الإعلام
الذي اقلق كراسي المسؤولية وقوض عروش المناصب الكبيرة والصغيرة، وأربك خطوط الأعمال وأزهق أنفاساً وقتل آدميين ليس بالضرورة بالرصاص وأدوات الفتك القتالية، ولكن بالكلمات والحروف والصورة التي تخترق العقول وتضرب في أعماق القلوب.. فهل لعنة العالم الرسمي في أماكن كثيرة هي الإعلام؟ وهل مقتل الشأن العام في الدول هو المنكشفات في أسرار الإدارات والغرف المظلمة والمصالح الخاصة؟
كم من مسؤول تمني أن يقبر الإعلام أو يئد الإعلاميين أو يقوض مؤسسات الاعلام أو يلغي كل الكلام ويمسح كل الصور.. كم وكم وكم.. ولكن من هو هذا المسؤول وما طبيعة عمله، ولماذا كل هذا السخط وكل هذه النقمة وكل هذه الاحتجاجات على الإعلام وكل هذا التشكيك وكل هذا الإنكار وكل انواع اللا مبالاة والتجاهل في كثير من الأحيان.. ولكن الاعلام باق والإعلام مستمر والإعلام أصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة الفكر والثقافة والمسؤولية والحياة، بل أصبح صورة العالم وتاريخه وقلبه النابض وعقله المفكر، وفي أكثر الأحيان بات الإعلام هو ضمير الأمة ونبض الكون وعقل الوطن في كل الأوطان..
يختلف الإعلام عن بعضه البعض وتتفاوت أدواته وتتمايز أساليبه ولكنه يظل مهما اختلفت هياكله وتنوعت وسائله هو إعلام السلطة الرابعة، مهما تحجمت هذه السلطة في أحيان وتمددت في أحيان أخرى.. الإعلام هو سلطة مجتمعية منذ أن بذر يوحنا جوتنبرج اول بذرة في مفهوم الاتصال الجماهيري باختراعه للمطبعة في منتصف القرن السادس عشر ثم تلتها اختراعات وتقنيات وممارسات إلى ان وصلنا إلى ذروة الاعلام باختراع الإنترنت وتطبيقاته المختلفة وانتشاره في كل الأرجاء.. الإعلام الحديث له أكثر من أربعمائة عام وهو يصول ويجول ويكتب تاريخا وينثر كلماته وصوره وينقل الأجيال من جيل إلى جيل ومن دولة إلى دولة ومن نظام إلى نظام..
تتغير الأنظمة والدول ويبقى الإعلام منتصراً مثله مثل بقاء المجتمعات والأمم والكون والطبيعة، يذهب مسؤولون ويخرج رجال ويبقى الإعلام بنفوذه وقوته وتأثيره على كل شيء.. الأشياء تتحرك من تحت الاعلام كالأنهار التي بين الجبال، ولكن تبقى الجبال شامخة شاهدة تنظر حولها ترى انجراف ما حولها ومن حولها من معتركي السياسة وأصحاب المصالح وقابري الحقائق العامة ومنتفعي الحقوق الخاصة.. منذ أكثر من أربعمائة عام والإعلام باق في العالم رغم تهاوي ممالك ودول أوروبا الوسطى والإعلام باق رغم ديكتاتوريات افريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ورغم نفوذ أحزاب الشيوعية في المنظومة الاشتراكية الدولية، ورغم أصوات الخنق ومحاولات التغييب وضغوطات النفوذ الرسمي على أشخاص ومؤسسات ومحتويات الإعلام..
الإعلام يكتب العالم، ويسطر الحقائق، ويكشف أسرار التاريخ.. كما العلوم تكتشف الطبيعة ودراسات المجتمع تكشف ظواهر المجتمعات والنفس يخوض في نفوس البشر فالإعلام يكشف حقائق الاحداث وأسرار الغرف المظلمة وأصوات المختصرات الجانبية، ويكشف أوراق الانتفاع العام والمسؤوليات اللا مسؤولة.. الإعلام صوت للوطن ونبض للمجتمع وعين للمواطن... والإعلام بنماذجه الجديدة وادواته الحديثة أصبح مؤسسة المجتمع الأولى وسلطة السلطات ولم يعد الإعلام يهاب حقائق المجتمعات وتابوهات المؤسسات الخاصة والعامة.. لقد أوشك الاعلام أن يختنق بأدواته التقليدية مع مرور العقود والقرون، ولكن التقنيات العصرية نفثت في روحه من جديد وأعطته مساحات غير مخترقة وفتحت أمامه فرصاً استثنائية وهوامش غير منقوصة جعلت منه سلطة فوق السلطات ورقابة فوق الرقابات وصوتاً فوق الأصوات..
يعيش العالم اليوم وفي القرن الحادي والعشرين حقبة اعلام استثنائية تفوق ما قبلها من هيمنة وسيطرة ونفوذ إعلامي تقليدي، وتتجاوز حدود التأثير الاعتيادي إلى آفاق الهيمنة الاستثنائية والسيطرة الكونية على مجريات الشأن العام والخاص، ولم يعد ينفك عن الاعلام أي صغيرة وكبيرة الا وارتمى في حضنها الاعلام أو هي ارتمت في حضنه واصبحت جزءاً من منظومته وتحت طائلته وتسبح في فلكه.. الاعلام يقف ندا للجميع ويستأثر باهتمام العالم فهو متحدث رسمي وغير رسمي باسم العالم وباسم المواطن وباسم القضايا الوطنية والأممية والكونية..
ويظل العالم يبحث في الإعلام والإعلام بدوره يبحث في العالم، ونظل جميعنا نقتات على مادة الإعلام المنثورة أمامنا وعلى يميننا وشمالنا ومن تحتنا وفوقنا وخلفنا وفي كل الدوائر المحيطة بنا، وتظل الريبة والشكوك تدور حول الإعلام من أصحاب القرارات الخاطئة دوما وأصحاب المصالح الخاصة والاجندات الخفية.. ولكن من يرَ الحقائق كالنور، ومن يرَ النور في الحقائق لا يهاب الاعلام ولا يكترث لما ينشر أو يتداول أو يظهر أمام الرأي العام في كل المحيطات المحلية والإقليمية والدولية.. الإعلام هو سلاح فتاك لا يرحم ولا يجامل، وخاصة عندما تتناثر الوقائع أمامه وتنكشف الخفايا وتنبعث الحقائق من جديد.. فالإعلام لا يمكن أن نواجهه إلا بالإعلام وبالإعلام وحده، ولا يمكن أن نرتقي إلى مصاف الرأي العام إلا برأي إعلامي مقتدر ومتمكن.. فالخروج من مآزق الإعلام لا تأتي إلا عبر بوابات وقنوات الإعلام.. والحقيقة الثابتة دائماً أن إعلام المبادرات وإعلام البدايات هو أقوى وأنجع الطرق عن الدفاعات الإعلامية اللاحقة..
alkarni@ksu.edu.sa- المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود