يا أمة الحق هذا عنوان ديوانه كانت البداية مشبعة بنداء صارخ يستصرخ به أمة الحق.. كل أمة الحق لأن الحق أحق أن يتبع.. اجتزئ بعضاً من مناشدته ومناداته:
يا أمة الحق ما اشجاك اشجاناً
وما يسرك سر القلب جذلانا
لا عذر للحر إن كانت عقيدته
عذر لمن مات لا عذر لمن هانا
أني احب كريم النفس معتصماً
بالله ملتمساً عفواً وغفرانا
كلنا ذلك الرجل يا شاعرنا.. فأين المزيد؟
يا أمة الحق والآمال ترمقنا
والفجر يرقبنا.. والليل يغشانا
ما للجهاد وأدنا فيه ألوية
وللميادين عطلا من سرايانا
أنت تتساءل وعلينا الإجابة بصدق، الجهاد في عرف شرعة القانون الوضعي لا الشرعي تحول إلى تهمة يحاسب عليها.. بتنا نتجنبه خشية من تداعياته كي لا تطالنا بأذى.. رغم أننا أبرياء من تلك التهمة..
يا أمة الحق والإسلام ميزنا
تفنى الحياة وما تفنى مزايانا
ما زلت فوق جواد الشعر ممتطياً
أرنو لملحمة التاريخ ميدانا
كلنا نرنو.. ونأمل أن تنقشع الغمة عن سمائنا.. وتشرق شمس الحرية على عالمنا المسكون بتوحشه وهمجيته.
شاعرنا العبيد حاور التاريخ ماذا قال له.. وماذا قال عنه؟
يا فارس الحب في باقات اشعاري
ويا مفجر شجوي بين افكاري
ويا مجدد احلام الربيع بما
وهبته من شذا نغمي وازهاري
مهلاً اما عشت بالآمال تسعدني
فكيف ترضى بإعلامي وإضراري؟
وكيف تأسر إنشادي وعاطفتي؟
وكيف تجتاز اعماقي واسواري؟
أما رأيت جراحي اليوم دامية
فكيف تهوي بسيف منك بتار؟
إلى أن يقول:
أبكي على امتي ضلت مسالكها
وعندها الحق يسري فيض انوار
تحدث عن القدس وجرح لبنان والنار في أفغانستان.. عن هولاكو القديم.. وكل هولاكو جديد.. طرحها شكوى صارخة امام ضمير التاريخ.. التاريخ دعاء لا ذنب له.. الذنب لأولئك الذين يفرغون في إنائه إحباطاتهم وإسقاطاتهم.. ومن مقطوعته سقوط الحضارة أجتزئ هذه الأبيات:
هي الحضارة ما زالت مهددة
تشكو السقوط وتبغي من يواسيها
فارفع لواءك خفاقاً يعيد لنا
حضارة بالهدى والحق تحيينا
ضراعة إلى الله أن يحفظ لأمتنا حضارة الحق، والإيمان والهدى.. وقد آلت الحضارة الغربية المادية إلى الأفول.. وعن (جيل الحجارة) يقول:
مرحى لأعزل يلقى الموت مبتسماً
وحوله البغي بالارهاب يفتخر
مرحى لوثبة شعب في انتفاضته
يروي وينشر للأجيال ما ستروا
جيل الحجارة كم اثلجت افئدة
فأنفضت الكون وازدانت به السير
أزلت عنك لجام الخوف فانطلقت
هموم قلبك كالبركان تنفجر
عز السلاح فخضت اليوم ملحمة
تدمي الذين زجرناهم فما ازدجروا
كانت هذه حكاية الأمس.. يومنا يا شاعرنا يتيم وعقيم.. وأليم الواقع والوقع والمحصلة..
من هؤلاء (سؤال) لا نملك لا جواباً قبل أن نقرأ:
من هؤلاء حياتهم أتراح؟
تبدو عليها لوعة وجراح؟
من هؤلاء تشبثوا بمبادئ
تحكي السراب بريقها لماح
فإذا غفو تلهو بهم احلامهم
واذا صحو يلهو بهم سفاح
من هؤلاء تمزقوا في ذلة
وها هموا للطامعين مباح؟
هو نفسه عرفنا عليه أو على بعضها.. وكفانا شر القتال: أي السؤال:
يا للشعارات التي في زيفها
تغزو الديار ونارها تجتاح
كمبادئ الماسون في تضليلها
والكفر فوق جبينها بواح
لم تخش اسرائيل من قومية
هي مبدأ في زيفه ملحاح
يا عزيزي.. بعض مما ذكرت.. وآخرون غيرهم لم تأت على ذكرهم.. إنهم كثر..
(دم الشهيد) فيض من أشجانه هز كيانه.. وفجر خاطره وبيانه:
ارنو إلى ذاك الفتى متوجعاً
يشكو من الآلام والأشجان
أضناه موطنه الجريح مكبلاً
في قيده قد ضاق بالسجان
لم يبق من دنياه الا خيمة
راحت تصاحبه بكل مكان
يهفو لسعدة.. ما تزال صبية
وكلاهما بالأمس دون ثمان
يتسابقان كأنهم في حقلهم
طيران قد عجزا عن الطيران
ملاحظة: يتسابقان مثنى وكأنهم جمع.. الصحيح (يتسابقان كلاهما) ويعني الأطفال المشردين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت.. وضجت بهم السبل.. فما من ملجأ آمن للاجئ يتملك الخوف.. ويتهدده العري، والظمأ، والجوع.. والتشرد..
(اليتيم) أثار مشاعر شاعرنا العبيد.. اختص به بعضا من قصيده:
قف وانظر البؤس يسري في مشاعره
على مساء شتيت الفكر حائره
فقلبه الغض يشكو من مواجعه
والدمع كالجمر يجري في نواظره
يلهو بماضيه رفافا فيوقظه
جرح ألمّ به اودى بحاضره
حتى إذا ازدحمت اشجانه سقطت
دموعه تتهادى من محاجره
مات والده فلفته عباءة الوحدة والوحشة:
ابي رحلت فعاد البيت ارملة
ثكلى وعادا سيراً في مظاهره
ان نفسه يتحدث:
ابي رحلت فأمي في توشحها
على سواد كبير الطرف غائره
سواد كبير الطرف توصيف غير ملائم.. ابدل مفردة كبير بـ كئيب الطرف.. ونكمل حديث اليتيم
لم الغياب، وهذا الليل يا ابتي
أدمى خطانا بشوك من غدائره
ومن يتيم بلا حب.. إلى بطاقة حب لمدينة فتن بها واحبها..
يا قلب غرد وهات الشعر صداحا
واسكب قصيدك معطارا وفواحا
وراقب الزهر يزهو في خمائله
أشجاه لحنك ابداعاً وافصاحا
هذا الجمال الذي يغريك منظره
يظل بالروح والريحان نفاحا
أكرم بها (الباحة) المعطاء عانقها
من الشذا ما اراح الهم فانزاحا
نزلت فيها على روض وساقية
توحي لنا الشعر لماحا ووضاحا
وها هو اعطى شعره لماحاً ووضاحاً.. ومن الباحة حيث استراح.. إلى (أبها) البهية ودّعها شعراً:
ودعت ابها وطاقات الرياحين
وهاتف الشعر أغريه ويغريني
عهدته جامحاً أن جئت اطلبه
وها هو اليوم في أبها يناجيني
يا قلب غرد.. وهات الشعر في وله
فالحسن يأسرني والشعر يسبيني
ودعت أبها وكم رفت نسائمها
(يا مرحباً الف) جاءتني تحييني
فقلت ماذا سأهديها وامنحها
والتمر من هجر؟ أم مسك (دارين)؟
أم باقة من رياض الشعر صادقة
وصادق الشعر من اقوى البراهين؟
فقلت أمنحها شعري، ابوح به
مجنح الشوق يرضيها ويرضيني
منحها من شوقه في سخاء.. ومن شعره في وفاء وصفاء يشكر عليه؟
شاعرنا العبيد عرفنا بتجربته بعد أن وقف مشدوداً إلى ورقة يسائل نفسه من أين يبدأ.. وبدأ:
عن السنين التي مرت وكنت بها
اهوى القراءة حتى ملني ارقي
عن الدموع التي تنساب من قلم
يسري من غسق واه إلى غسق
عن خواطره التائهة الهائمة حول صحائفها.. عن الفكر المشتت كيف يستجمعه.. اخيراً
حتى اهتديت إلى علم وجدت به
معنى الأمانة في قلبي وفي عنقي
أي علم اهتدى إليه العبيد؟ مجموعة عناوين لمجموعة قيم حددها.. منار يضيء الدرب لسالكيه.. وصراط مستقيم يشرف به سالكه.. وحصافة رأي تكشف مواطن الخطأ.. ودعوة صادقة للحق.. تلك هي العناوين التي اصطفاها شعارا ودثارا لتجربة حياته..
من التجربة إلى العيد.. ولكن أي عيد؟
أطل العيد في ثوب جميل
يطوف على الروابي والسهول
وجاء الحب يغمر كل قلب
يبدد قسوة الهجر الطويل
فأسفر في صباح العيد وجه
ووجه فيه آذان بالأفول
وكم قلب تأوه في صباح
وكم دمع تهامى في أصيل
وكم بالعيد من بيت سعيد
تذكَّر فاستحال إلى عويل
مفردة (تذكَّر) هنا غير مفهومة وغير مناسبة.. الأنسب كلمة (تغير) لكل هذا التعريف المتراكم المشحون بالتناقضات اختار العيد الذي يرنو إليه.. ويطمح فيه: ولكنه لا يقدر عليه.
فقلت ومهرجان العيد حولي
أليس إلى التعاون من سبيل؟
وكيف العيد والمأساة فينا
تجدد نكبة الجسم العليل؟
ذاكرته أعادت إلى ذهنه حال الجياع والمشردين والبؤساء في أكثر من مكان.. أدرك عن يقين أن لا عيد مع البؤس.. ولا فرحة مع الظلم.. ولا ابتسامة مع الحزن، العيد كما يراه عيد الناس كل الناس سواسية في الفرحة. هذه المرة لا يريد لأحد أن يسأله.. ومع هذا لا بد من سؤاله.. وعليه أن يجيب إذا كان يملك الإجابة.
لا تسلني كيف الهجت الصداحا
فاق في الناس سيوفاً ورماحا
لا تسلني رب قول صادق
قد احال الشعر نبضها وكفاحا
يستثير العزم في دعوته
ويداوي الضيم فينا والجراحا
ولكنه أعطى الإجابة تلميحاً حيناً.. وتصريحاً حيناً آخر حيث قال:
لا تسلني امتي ارهقها
في تغاضينا حماها المستباحا
والزعامات التي تلهو بها
تنشر التضليل والكفر البواحا
لا تقل يا صاح إن الشعر قول
كم أثار الشعر والقول السلاح
بعد كل هذا لن نسألك..
شاعرنا العبيد تغنى ببلدته الجميلة القديمة (الجبيل) غنى لها شعرا:
أنا يا بلدتي لثمت هواك
وعشقت الجمال في مغناك
فضياء الصباح يغمر قلبي
هو لو تعلمين نفح صباك
ونشيد المساء عانق حلمي
فغدا الحلم قبسة من سناك
(قبسة) صحيحها (قبس) لا تأنيث في المسمى..
يتابع ولهه وعشقه لبلدته القديمة..
قد رأيت الجمال في كل روض
غير أن الجمال ملء حماك
يسرح به خياله بين شواطئها.. واشرعتها.. وبحرها.. والغواصين.. واللؤلؤ.. والصفاة وازقتها الضيقة وهدوئها.. ومراتع الطفولة كلها جالت في خاطره.. زادته تعلقاً بها وحباً لها..
انا يا بلدتي أتيتك اهفو
للشباب الضحوك فوق رباك
فاحفظي العهد يا رفيقة عمري
ان طوى الدهر صفحتي أو طواك
ويختتمها بهذا البيت المشحون بالمشاعر:
عجبا جئت شاديا لمفاتينك
لعمري أو راثياً متباكي
كلمة متباكي غير مفرحة.. الأفضل ان ياتي الشطر: لعمري أو راثياً لك باكي
عن مأساة البوسنة والهرسك كانت له شكوى:
حكم القضاء ونفذت اقدار
وتسعرت بالمسلمين النار
وعلا الصليب على المآذن واعتلى
فوق الغثاء الضائعين العار
صبرا سراييفو بأي جريرة
يُغتال شعب مسلم؟ وديارا؟
شنت عليه الصرب حربا يكتوي
بلهيبها الفضلاء والأحرار
ليت شاعرنا قال نسبة إلى شطره قبل الأخير (واكتوى) بدلاً من يكتوي.
كم طفلة تدمي الفؤاد دموعها
ويتيمة اودى بها الفجار
وصبية ضمت ضفائر شعرها
تجتزها في قسوة غدار
لم تدر أين تفر حتى ساقها
وغد وادمى قلبها اشرار
ابيات جميلة ومعبرة.. لها ما بعدها:
صبراً سراييفو فكم من محنة
تسري بها الأبناء.. والأخبار
صبرا على المدن العريقة حقدهم
لهبا وان حل المساء أغاروا
كم دمروا من منزل.. واستهزأوا
في مسلم وتهدمت اسوار
(استهزأوا في مسلم) تعبير غير مقنع.. أرى إبدال في مسلم بكلمة (أناسه) أو (أهله) انها أنسب..
ومساجد تشكو مظالم امة
فجعت بها الصلوات والاذكار
في كل يوم ذلة يسقى بها
قومي وجرح نازف وصغار
في بيتك الأخير ما يغنيني عن الكلام. أخيرا مع آخر محطات رحلتنا عبر الاستراحة مع شاعرنا الصديق عبدالرحمن العبيد عبر ديوانه (يا أمة الحق) ومن خلال مقطوعته (المحاورة الأزلية) ماذا عنها.. وماذا قال:
غرد بشعرك شنف الآذانا
واعزف لعشاق الهوى الحانا
واسكب نشيدك طاقة فواحة
أهدت إلينا الفل والريحانا
أو ما رأيت الطير يشدو حالما
غردا يثير الدوح والأفنانا
لو كنت مكانه لغيرت الشطر الأخير على النحو الآتي:
غرداً يثير الفرح والأشجان.. الدوح لا يثيره شجو..
ما للقصيد وللمبادئ كبلت
ذهنا فجئت تحرر الاذهانا؟
ما للقصيد وللشيوخ تجللوا
بالموت لم يجدوا لهم اكفانا
لا احد يتجلل بالموت يا عزيزي الصواب بالعربي كثيرون من البشر يعيشون عراة ويموتون وهم عراة لأنهم لا يملكلون ما يسترون به سوءاتهم..
يا من يحاورني بنغمة عابث
اني أقيم لحجتي برهانا
انا شاعر سكن الجهاد لشعره
مذ واجه الالحاد والطغيانا
أو ما ترى جرحي يمزق امتي
تلقى به في العالمين هوانا؟
قل للذين تقاعسوا واستسلموا
ما هكذا داعي الهدى اوصانا
بهذه القصيدة تنتهي الرحلة.. وعلى موعد بإذن الله.
الرياض ص.ب 231185 - الرمز 11321 - فاكس: 2053338