المرفق جاهز ومجهز، لكن ويا للأسف لا تتوفر الطواقم البشرية لتشغيله. قال المواطن سند الشمري قبل أيام إنه توجّه بزوجته بعد أن داهمها الطلق إلى المركز الصحي بمدينة تربه / محافظة بقعا منطقة حائل، فلم يجد به لا أطباء ولا ممرضات ولا حتى سيارة إسعاف. وُلدت المرأة داخل السيارة على قارعة الطريق في منتصف الليل وفي درجات حرارة أدنى من الصفر.
المركز الصحي كان موجوداً، والمبنى جديد وجميل، وبه ( حسب ما صرح به مسؤول من صحة المنطقة ) كل التجهيزات الطبية اللازمة، لكن ما كان ينقصه هو الأطباء والممرضات. سيارة الإسعاف ربما كانت موجودة، لكن ليس في مكانها الصحيح أمام المركز الصحي. قد يكون استفاد منها شخص ما لغرض ما، لأنه افترض أنها لا فائدة منها هناك ما دام المركز الصحي نفسه لا يعمل.
لا علينا من سيارة الإسعاف الآن على الأقل، وسأعود لها بعد قليل لأنّ وجودها كان سيفي ببعض الفائدة.
بعد تهنئة المواطن سند الشمري على رباطة جأشه وقوة تحمله والدعاء له ولزوجته وطفلهما الجديد بالصحة والسلامة، علينا أن ننظر في الدلالة الأعمق لمحتوى الخبر. الجهة المسؤولة عن القطاع الصحي في المنطقة التي يسكنها المواطن سند الشمري في مدينة تربه، أطمعت السكان هناك بتحسن الخدمات الصحية بطريقة تأمين المبنى وشراء المعدّات والتجهيزات اللازمة للمركز. انظروا يا ناس، اشترينا لكم حديدا ً واسمنتا ً وأبوابا ً ونوافذ، ووضعنا بداخلها أجهزة تصوير أشعة ومختبر تحاليل وغرفة ولادة وتعقيم.. إلى آخره، لكن للأسف تنقصنا الكوادر البشرية اللازمة لتشغيل هذه الأشياء.
هذه الطريقة في صرف الأموال ما هي إلا فرع صغير من شجرة هدر الأموال على التنمية الوهمية، أي الاستثمار في الأشياء وترك البشر على عماهم وضمورهم التقني. شراء وشراء وشراء وصرف أموال على مباني وتجهيزات ومعدات ومستلزمات، يتم أحيانا ً تركيبها في المباني المعدة لها، وكثيراً ما تبقى في المخازن حتى يعفو عليها الزمن وتنتهي صلاحياتها.
هل الموضوع هوس بيروقراطي بالشراء، أم أنّ وراء الشراء أهداف ومآرب أخرى، عيونها على الأموال وليس على المقاصد التي ترصد الأموال لها. لا أدري، لا أنفي ولا أجزم، لكن الفساد المالي والإداري الذي تلاحقه هيئة نزاهة قد يكون أحد الأسباب.
المخازن في مؤسسات القطاع الحكومي تكون دائما ً ممتلئة بالمستلزمات والمعدات والأجهزة التي يحول عليها الحول والحولان والثلاثة، وفي كثير من الأحوال تنتهي بالتلف أو تباع خردة، أو تطرح في مزاد علني للتخلُّص منها. الأعذار دائماً ًموجودة، تتكرر ولا تتغير. الطواقم اللازمة لتشغيل ما في المخازن لا تتوفر، أو أن المشتروات زادت عن الحاجة. مع وجود بعض الصحة هنا وهناك، إلاّ أنّ ثمة حقيقة أخرى تختبئ تحت وخلف الأجهزة في المخازن، وهي أنه لا أحد يعرف كل ما في المخازن، ولا أحد يطل فيها لتفقُّد الموجودات، ناهيك عن القيام بجرد أسبوعي أو شهري أو حتى فصلي للتأكد من محتواها، هل فقد منها شيء أو تلف أو تسرّب إلى الخارج. في كل مؤسسة حكومية يوجد مأمور مستودع، هكذا يسمّونه « مأمور»، ولأنه لا يأمره أحد فهو الحاكم بأمر الله في المخازن والمستودعات. التفتيش المفاجئ على مخازن القطاعات الحكومية سوف يكشف مصداقية هذا الكلام. المطلوب فقط من المكلّفين بمهمات التفتيش أن يضيؤوا الأنوار الكاشفة ويزيحوا الطبقات العليا من المخزونات، وأن يتقدموا إلى الأركان القصية في المخازن، وسوف يجدون ما لا يخطر لهم على بال. سوف يجدون مستلزمات وأجهزة ومعدات تم شراؤها قبل سنين وما زالت في المستودعات.
الآن أعود إلى سيارة الإسعاف المختفية. لو كانت السيارة موجودة بسائقها في المركز الصحي المذكور، لاستطاع المواطن سند نقل زوجته بها إلى أقرب مستشفى في المنطقة. لكن السيارة لم تكن هناك فنقل المواطن زوجته بسيارته الخاصة التي تحوّلت إلى غرفة ولادة في المقعد الخلفي، نقلها إلى مستشفى بقعا. لماذا بقعا بالذات؟.. لأنها أقرب مدينة إلى تربه التي لم تتوفر في مركزها الصحي طواقم التشغيل ولا سيارة الإسعاف. في الزمن القديم، زمن ما قبل السيارات والأسفلت، كان أهل حائل يقولون لمن يتمنّون بعده عنهم: طس وعساك ورا بقعا، ربما لأنّ الوصول إليها آنذاك كان صعبا ً بالوسائل المتوفرة. في مجال الطرق تحسّنت بحمد الله الأحوال كثيراً، والمواطن سند وصل إليها في ظلام الليل الدامس بسيارته الخاصة لإجراء الإسعافات اللازمة لزوجته، بعد انتهاء الولادة في السيارة أمام المركز الصحي الذي غابت عنه طواقمه.
خاتمة في شكل اقتراح: ماذا لو اختارت الجهة المسؤولة عن القطاع الصحي في بقعا عشرة شبان وشابات من العاطلين عن العمل في تلك المحافظة ودرّبتهم لعدة شهور في مستشفى بقعا العام، ألن يكون ذلك كافيا ً لتشغيل المركز الصحي في مدينة تربه ولو مؤقتاً؟. أم أنّ البيروقراطية لا تسمح.