|
كثيراً ما نخدع أنفسنا بتسمية الأشياء بغير مسمياتها، أو بتعليق إخفاقاتنا المتنامية على مشجب من أوهامنا، ونكذب ثم نصدق كذبتنا وندافع عنها باستماتة وكأنها حقيقة واقعة..
فكثير من (شعوب ما يسمى بالربيع العربي) هي شعوب استمرأت ألوان الفساد منذ عشرات السنين، وتفننت في تطويرها، وتحايلت على كل القوانين التي تقاوم تلك الأساليب، وتحاول ردعها أو الحد منها.. فتعددت أساليب الفساد وانتشرت، و- للأسف- وجدت تشجيعا من كثير من العامة والخاصة؛ بين الواسطة والمجاملة والرشوة والترهيب، بل والبلطجة إذا لزم الأمر.. وانتشرت تلك الأساليب حتى صارت خلقاً عاماً توارثه الصغار عن الكبار، ورضعته الأجيال والناشئة خلال عقود!!
فأنظمة التعليم والإعلام ضاعت فيها القدوة الحسنة، وتعلم النشء من خلالها استحلال ما ليس من
حقهم بالغش والتدليس تارة، والاقتداء بأبطال الدراما الذين لا يكونون في الغالب إلا تجار مخدرات أو من زعماء العصابات أو من الفاسدين من المسؤولين في الدولة تارة أخرى.. كما أن هناك الإعلاء من القيم اللاأخلاقية البعيدة عن قيم الدين وأخلاقياته، بل والاستهزاء بأهل الاستقامة والميل إلى الدين ومحاسن الأخلاق.. والأدهى من ذلك كله غياب القدوة الدينية الصالحة، وتغييب كل ما هو إسلامي صحيح، والانتقاص منه والاستهزاء به، كل ذلك أدى إلى تحلل القيم الأخلاقية الأصيلة للمجتمع وذوبانها، وظهور قيم جديدة أساسها الفهلوة وخرق القوانين والتمرد عليها لتحقيق أغراض شخصية آنية؛ ففاض اللئام فيضا وغاض الكرام غيضا.. وظهرت القيم الغريبة التي ترعرعت في غفوة من المجتمع، أو استمرأها، ولم تقاوم وجودها الأسرة، بل تهاونت إزاءها ورعتها دون أن تدري. فنشأ فيها العامل الفاسد، والموظف الفاسد والمواطن الفاسد والمسئول الفاسد بمباركة من المنتفعين الذين يمثلون - للأسف - نسبة كبيرة من تلك الشعوب، والتي لم تفلح في مقاومتها القلة المحافظة التي تشتتت هنا وهناك فأصبح صوتها ضعيفا لا أثر له..
الثورات العربية هي في حقيقتها ثورة شعوب على نفسها.. ثورة الابن والبنت على الأب الذي علمهما الفساد يوما أو سكت عن فساد.. ثورة التلاميذ على معلميهم الذين كبروا على مبادئهم التي أعلوا فيها قيمة المكر والفهلوة وعلموهم أنها عين الذكاء!! إنها ثورة شعوب لم تراعِ الله في اختيار الحكام على حكام لم يراعوا الله فيهم؛ لأنهم لم يتعلموا ابتداءً: كيف تكون الرعاية لوجه الله.
ماذا تنتظر من ثورة بعض النار على بعضها؟!! ماذا تنتظر من غضبة الأحقاد على الأحقاد؟!!
ماذا ستجني البلاد والعباد من هبَّة المفسدين بعضهم على بعض؟! غير ما نراه من مرارة عيش وغياب أمن وانفلات أخلاق، وهو ما به تهلك الأمم؟!
انتبهوا أيها الثائرون المثارون.. إنها الفتنة والابتلاء.. وليعلم الجميع أنها العقوبة الإلهية على التقصير في حق الله عقوداً مضت، عقوبة من نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأن هذا بعينه هو حصاد المكر في آيات الله ، حين تنسى هذه الشعوب وعيد الله بقوله تعالى (والله خير الماكرين)، وتتجاهل حقيقة قوله جل وعلا (ما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).. فعلّها تتضرَّع إلى الله عز وجل منيبة إليه، عسى أن يكشف ما حلَّ بها من فرقة وشتات.. وعلها تعود إلى قيمها الأصيلة بالعودة إلى الله أولاً وأخيرا لتتقي الله تعالى في أنفسها وأهلها وأوطانها..
ولتتجه إلى الله بقلوبها وصالح أعمالها، داعية ربها أن يجنبها الفتن ويلهمها الصواب، ويسدد ولاة الأمر في كل بلادنا لما فيه خير البلاد وصلاح العباد.. إنه نعم المولى ونعم النصير، وبالإجابة جدير.