عندما اندلعت هَبَّة أكثرية الشعب السوري منادية بالحرية والعدل كتبت عدة مقالات موضحاً أن الوضع في سوريا مستحكم العُقَد مختلف تمام الاختلاف عن الوضع في الأقطار العربية التي قامت فيها هَبَّات شعبية؛ وهي تونس وليبيا ومصر واليمن.
وقد رأيت ذلك بناء على أمور بينها: أولاً أن النظام في سوريا قام معتمداً على قوة طائفة لم تكن تحلم أن زعماءها سيصبحون في يوم من الأيام ممسكين بزمام الأمور في ذلك القطر المبتلى. وخوفاً من انفلات ذلك الزمام من أيديهم أحاطوا سلطتهم بأكثر من عشر جهات أمنية؛ كل واحدة تراقب الأخرى. ومكراً ودهاء جعلوا من رجالات الأكثرية عدداً في مناصب رسمية، لكن التعليمات السريِّة لأتباعهم من طائفتهم كانت عدم تنفيذ أوامر من هم في تلك المناصب أو مراعاتها. ثانياً أن النظام السوري مُتَّفق تمام الاتِّفاق مع النظام الإيراني؛ اتجاهاً مذهبيًّا ومصيراً استراتيجيًّا. ولذلك فإن النظام الإيراني المعروف بعدم وُدِّه للعرب، إن لم يُقَل المعروف بعدائه لهم، سيقف حتماً مع النظام السوري بكل ما يستطيع؛ سياسيًّا، وماليًّا وعسكريًّا. وهذا الوقوف الحتمي ناتج عن إدراك واضح بأن زوال الحكم السوري سينتج عنه زوال النفوذ الإيراني في العراق؛ وهو النفوذ الذي خطَّط له ومهَّد السبيل إليه العدو الأمريكي المتصهين باحتلاله العدواني لذلك القطر العربي. ومن الثابت أنه كان هناك تعاون، أو تفاهم، بين القيادة الأمريكية المتصهينة والقيادة الإيرانية المُتَّصفة بالدهاء والمكر، وإن بدت تصريحات من قِبَل الطرفين تخالف ذلك. ومن الأَدلَّة على هذا أن وزير الخارجية الإيراني قال ذات مَرَّة: إن أمريكا تعرف أنها لم تحتل أفغانستان إلا بمعونة إيران، وأن أمريكا فور احتلالها للعراق سمحت للعراقيين، أو المدَّعين أنهم عراقيون، وكانوا موجودين في إيران مُتربِّصين للانقضاض على أرض الرافدين، أن يدخلوا إلى العراق بكامل أسلحتهم ليأخذوا طريقهم المُمهَّد للسيطرة على ذلك القطر المنكوب بالاحتلال. ولقد قال الحاكم بأمره، الأمريكي بريمر، للجعفري: يجب عليكم أيها الشيعة أن تشكروا أمريكا لأنها أوصلتكم إلى حكم العراق؛ وهو الأمر الذي طالما تمنيتموه طوال قرون ولم يَتحقَّق لكم. وعندما ارتكب المتصهينون من الأمريكيين الاحتلال العدواني للعراق كان في ذهن بريمر وأمثاله من أعداء أُمَّتنا فكرة بن غوريون التي رأت أن رسوخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين يَتطلَّب مما يَتطلَّب السعي إلى تقسيم الأقطار العربية إلى كيانات عرقية و طائفية. لذلك لم يكن من الغريب أن يُكلَّف صهيوني أمريكي بصياغة دستور للعراق، فكان أن ظهر هذا الدستور الخبيث مُتَّصفاً بما يُسمَّى المحاصصة؛ مُكرِّساً للطائفية والعرية. وكانت النتيجة بالفعل تسليم القيادة الأمريكية المتصهينة للعراق بعاصمته الحضارية المجيدة بغداد إلى من يُكنُّون حقداً دفيناً لأُمَّتنا. وكنت قد أشرت إلى ذلك في أبيات من قصيدة عنوانها «نَهرٌ من العَجَب»؛ قائلاً:
من يُكابرْ في تَجاهله
حَيْفَ أَمريكا على العَربِ
فَهو جَافٍ عند أُمَّته
مُوجباتِ الدِّين والنَّسبِ
مِثلُ من قد باع مَوطنَه
لذوي الطُّغيان كالجَلَبىِ
وختام تلك القصيدة:
والذي قد مَسَّ مُهْجتَه
لَوثةٌ من فَاتكِ الوَصَبِ
لا تَرى عيناه ما ارتكبت
من صنوفِ البطشِ والسَّلَبِ
دَولةٌ سَاداتُها جَعَلوا
ذُلَّنا نَوعاً من الطَّربِ
وإذا لِيمتْ على صَلَفٍ
ثَار بركاناً من الغَضَبِ
يا زَماناً بات مُمطرُه
إذ هَمَى نَهْراً من العَجَبِ
كَيفَ لا يَبدو لِناظرِه
ما بدا من جُرْمِ مُغتصِبِ!
سُلِّمت بَغدادُ في طَبَقٍ
- لعُلوجِ الحِقْدِ - من ذَهبِ
وتَلظَّى في مَرَابِعِها
مُستطيرُ الرُّعبِ من لَهبِ
وجَنَتْ صهيونُ ما حَلَمتْ
فِيه من مُستَعذَبِ الأَرَبِ
وبذلك تَحقَّق للصهاينة وأعوانهم من المتصهينين الهدف الأكبر من احتلال العراق. وإن المرء ليعجب من وجود من يقولون: إن أهداف أمريكا في العراق فشلت. من الصحيح أن أمريكا خسرت أموالاً، كما خسرت آلافاً من أفراد جيشها. لكن ما وزن هذا مقارنة بالهدف غير المعلن؛ وهو القضاء على قوة العراق العسكرية؛ وهي القوة التي كانت الخطر الاستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني؛ إضافة إلى نهب ما نُهِب من تراث العراق وثروته؟ والأَهمُّ من هذا وذاك ترسيخ الطائفية والعرقية؛ مُقنَّنًّا في الدستور الذي صاغ مواده أمريكي صهيوني، وأصدره حاكم للعراق المحتل أمريكي مُتصهين لم يكن في تاريخه إلا ما هو سيئ الذكر.
ولقد تَجلَّت أَهمِّية امتداد نفوذ القيادة الإيرانية في العراق وتَرسُّخه؛ وهو الأمر الذي يعود تَحقُّقه إلى أمريكا المتصهينة عندما قامت هَبَّة الأكثرية من الشعب السوري منادية بالحرية والعدل، ثم مضطرة إلى حمل السلاح للدفاع عن المسالمين المنكَّل بهم؛ تَقتيلاً وتعذيباً وتدميراً لمساكن الأبرياء على رؤوسهم. فلقد أصبح العراق مَمرًّا واضح المعالم لإمداد النظام السوري المرتكب للجرائم البشعة بالأسلحة والأموال والمعدات؛ بل وببعض المقاتلين. فلا غرابة أن يحرص النظام الإيراني على بقاء النظام السوري؛ وذلك لإدراكه أن زواله بداية زوال للنفوذ الإيراني في العراق. ولو تَمَّ ذلك لكان من المُرجَّح أن تقوم هَبَّة شعبية في إيران نفسها.
لا أريد التحدُّث عن موقف روسيا الرامية بثقلها مع النظام السوري المرتكب للجرائم؛ عسكريًّا وسياسيًّا، فهو موقف واضح العداوة والتَّحدِّي لأُمَّتنا. ولا أريد التَّحدُّث، أيضاً، عن مواقف عدد من الدول العربية المساندة مع الأسف الشديد لذلك النظام المُتوحِّش فمواقفها ليس لها من الوزن والقيمة ما يُؤثِّر تأثيراً يذكر في موازين القوة عالميًّا.
المُهمُّ في نظري هو موقف الإدارة الأمريكية. وأعلم كما يعلم الكثيرون أن تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة كان، في عمومه، سلسلة من الانحياز العدواني للصهاينة المحتلِّين لفلسطين. وكل ما يخدم الاحتلال الصهيوني محترم ومراعى من قِبَل الإدارات الأمريكية المتعاقبة. لم يقتصر ذلك على الوقوف المستمر مع الكيان الصهيوني في فلسطين المُحتلَّة فحسب؛ بل تجاوزه إلى أماكن عربية أخرى أعظمها فداحة احتلال العراق وتحطيم قوته خدمة لذلك الكيان.
عندما اندلعت الهَبَّة الشعبية في سوريا أعلنت القيادة الأمريكية أن بشار الأسد ونظامه فقد الشرعية. ويبدو أنه قد انخدع بذلك الإعلان من انخدعوا، وظنوا أن أمريكا ستقف مع الذين قاموا بتلك الهَبَّة، فراحوا ينادون بتسليحهم للدفاع عن مواطنيهم ضد الظلم والجرائم المرتكبة. لكن سرعان ما ظهر أن القيادة الأمريكية مخادعة غير صادقة فيما أعلنت، ووقفت بعزمها الشديد، الذي تستخدمه إذا أرادت، ضد أَيِّ تسليح لمن قاموا بالهَبَّة الشعبية السورية. وكان السبب الجوهري، الذي بدا لي وراء ذلك التَّغيُّر في الموقف الأمريكي، أن مندوب الكيان الصهيوني إلى مُوتمر عقد في أوروبا قال في ذلك المؤتمر: إن قادة كيانه كَلَّفوا أجهزة استخباراتهم دراسة ما كان يجري في سوريا، فَتوصَّلت تلك الدراسة إلى أنه ليس من مصلحة ذلك الكيان زوال الأسد ونظامه. وما دام الأمر كذلك فإن أمريكا لن تقدم على أَيِّ خطوة ليست فيها مصلحة للكيان الصهيوني. وهكذا حدث التباطؤ في اتِّخاذ مواقف تساعد في ردع الظالم عن ظلمه، ثم تَطوَّر الأمر إلى التواطؤ مع مرتكبي الجرائم البشعة لإكمال ارتكاب جرائمهم؛ تقتيلاً وتدميراً. وهكذا توالت المبادرات؛ عربية عقيمة، ودولية عنانية أو أخضرية إبراهيمية. ولم يَتمخَّض عن تلك المبادرات إلا زيادة فرص للنظام السوري أن يواصل ارتكاب جرائمه مدعوماً بروسيا وإيران بالدرجة الأولى.
ما حدث يُرجِّح أن قادة العرب مع الأسف الشديد لم يقرأوا تاريخ علاقاتهم مع الدول ذات النفوذ العالمي؛ شرقية أو غربية، قراءة تَأمُّل تفيد من دروس ذلك التاريخ. لا أظن أن نظرة هؤلاء القادة إلى مواقف تلك الدول مختلفة عن نظرة كثير من أسلافهم أو من نظرتهم أنفسهم إلى المواقف السابقة. والأمر لله أَوَّلاً وأخيراً.