منذ الإصغاء الأول لبراءة النطق، وحبكة القص, ودهشة الخيال، وحضور دفء الأم في الليالي الباردة، وعذوبتها في تلك القائظة، وفي ربيع ودها، وخريف عبئها، كانت القصة الشعبية مبتدأ تعارفنا مع دهشة الطيوف حين تنزل بنا على صوتها الرحيم، وهي تمسح على رؤوسنا، أو تهزنا في حجرها،..
وتبعناها بما استقر في الذاكرة من حكاياتها، وأناشيدها، وأغنياتها، وزدنا من مخيلاتنا، نرددها لصغارنا..
بيد أنهم أكثر، أو أشد انتباهة منا أو مشاغبة.., ولم أكن أفسر هذا الاختلاف إلا بعد زمن..
حين كنت أصغي، وأقنع بكل ما تقوله أمي، فرأيت أبنائي يسألون كثيراً، ويدهشونني بالأسئلة.., وزاد شغب صغارهم أكثر عند الإصغاء..
ليست أغنيات المنام، أو حكايا المساء تمر بهم عفو السماع, بل إنها تحول لحظة النوم لجلسة استفهام.. حتى أوحي إلي أن أبدل الرموز بشخوص يعرفونها.., ويألفونها، أحولها لهم في شكل الأبطال, والمنقذين، والمفكرين، أما الذئب المخادع، والثعلب الماكر، والعجوز الطامعة، والطير الجارح، فإنهم إما أن يتمثّلوا أمامهم بما يعرفون عنهم.., وإما أن يكونوا موضع حوار، وأسئلة بريئة لكنها ذكية جداً....
وبقيت حتى وأنا أقصها عليهم، وأتغنى بها مع أحفادي، أستعيد محضن أمي، ومنامها..
الحكايات الشعبية تراث ثري ملأ مخيلاتنا، وساعد على مجرى أفكارنا، وشكل أنهار دهشاتنا، وكوَّن رصيد مشاعرنا.., وأحلامنا.. بل طموحاتنا، وأمانينا.. وقيمنا ومفاهيمنا.., وينبغي أن يحتفظ بهذا الثراء.
وقد فقدنا الكتاب الذي يلم شعث هذه الحكايات،..
إنني قد جمعت منها قدراً كبيراً من الجدة.., والخالة, والقريبة، والبعيدة، وبقيت مثل كل مخطوط حبرته لا تزال في مكمنها..!
حتى كان أن بادرت بعض أقلام جميلة فوثّقت بالنشر لشيء من تراثنا الشعبي في المجال كما فعلت الدكتورة عواطف سلامة، والدكتورة لمياء باعشن، والجميلة المبدعة هلا خالد.. وربما غيرهما.. فنزل بي شيء كبير من الاطمئنان لتراث الحكايا، وغناء الطفولة..، ولعلهن يسعين للمزيد.. للتراث المماثل في بقية أجزاء الوطن..
ذكّرني بهذه الشذرات في النفس، كتاب ثان حل بركني الأليف، من منشورات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، (دار الفيصل الثقافي) الذي عنى بنشر الإبداع واحداً من فروع هذا المركز الرئيس في البحث، والدراسة، والتمكين الفكري في المجتمع المحلي، والعالمي,..
هذا الكتاب في طبعته الأولى جاء بعنوان: «حكايات شعبية من الصين».. ترجمها إلى العربية لدار الفيصل الثقافية، «عبدالعزيز بن محمد الحميد»، برسوم الصيني ماي كو, في 123 صفحة، صدر نهاية 1433 - 2012
أبحرتُ معه بلغته المباشرة، وعفوية القص فيه، مع تراث صيني لا يختلف في مضامينه عن أي تراث إنساني، تحتوي القصص فيه على أهداف تربوية، ومقاصد بناء قيم في مكنون الصغار، وتعريفهم على أسلوب الحياة، وسبل التغلب على المصاعب فيها، وكيفية مواجهة المواقف، وطرائق الحماية من مزالق الدروب.. لكن بأسلوب سلس مرن، جذاب موحٍ..
تشابهٌ عريق في أساليب بناء الذات البشرية.. في المجتمعات الإنسانية.. البشرية...
حكايات جميلة، مدهشة، تحتاج إليها كل الأذهان المتعبة، والمخيلات المفرَّغة، والأرواح القلقة، وأولئك المحتاجون للخروج من دكن الحياة المعاصرة، إلى سعة أجواء براح الحياة حين كانت أكثر بساطة، وأعمق نبلا، وأشف فضاءً..
حكايات تعقم النفس من عوالقها المعاصرة..
كتاب (حكايات شعبية من الصين) يجدر بنا أن نأخذه لثغر القراءة بين الصغار، لعلهم يعودون بأنفسهم, أو نعود بهم إلى المعين الصافي لينهلوا أدباً رفيعاً، وحساً جميلاً... تساعد كوامنهم على النمو الخلاق..
هذه الحكايات التي ترجمها السيد الحميد ضمن إصدارات الفيصل الثقافية، هي في الأصل الصيني من إصدارات مطابع اللغات الأجنبية في بكين بجمهورية الصين الشعبية سنة 1985م، وفي ترجمتها عمل ينضم إلى كنوز المترجَم من التراث العالمي للعربية.. يستحق الإشادة، والتقدير للمترجم، وللناشر.
عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855