بـ(دعوة) كريمة من صديق عزيز.. لحضور مناسبة أكاديمية رفيعة: (مناقشة رسالة دكتوراه عن «البعد الاجتماعي في العمل التجاري»).. بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري بـ (الإسكندرية).. كنت أخطف قدمي مرحباً بـ «الدعوة».. مستجيباً لها، أو كانت قدماي - على وجه الدقة
... هما اللتان تخطفانني (إليها) في زيارة لاثنتين وسبعين ساعة. إذ إن الأمر عندما يتعلق بـ (الإسكندرية) وزيارتها.. فإنني - لست (أنا) الذي أخطف قدمي، ولكن قدمي هما اللتان تخطفانني إليها في أي وقت، وفي كل وقت.. وبكل الرضا.. وكل الحب، خاصة وأنه مضى على آخر زيارة خاطفة قمت بها إليها.. قرابة خمس سنوات! صحيح أنها أزالت بقية غبار السنين.. عن صفحة وجهها الجميل المواجه للبحر بطول ثلاثين كيلاً من قصر (رأس التين) غرباً.. إلى قصر (المنتزه) شرقاً، وذكرتني بـ (فندق سيسل) التاريخي المهيب.. الذي كان لا ينزل به إلا كبار الزعماء والساسة والقادة من نجوم الحرب العالمية الثانية وما بعدها من أمثال ديجول وتشرشل ومنتجومري، والذي كنت نزيله في ذات الجناح الذي كانت تقيم به سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) عند قدومها إلى الإسكندرية لإحياء حفلها الخيري السنوي - في شهر فبراير من كل عام - لصالح (جمعية أصدقاء مرضى الدرن).. بدار (سينما الهمبرا)، وهو ما جعلني أسعى للبحث عن رؤيتها.. لأجدها وقد تحولت إلى (متاجر) على واجهتها و(مستودعات) لتخزين البضائع في قلبها.. فلم أحزن كثيراً رغم صدمة (المشهد)، فقد عوضني أشهر وأفخم وأجمل مقاهي الإسكندرية بصفة عامة.. وميدان (محطة الرمل) - بصفة خاصة -: مقهى (أتينيوس).. الذي يقف مقابلها: بدوريه وإطلالته على الكورنيش، والنخيل الذي يتمايل أمامه، وبقايا فخامة الخمسينيات والستينيات على مقاعده وطاولاته وستائره.. لأتردد عليه صباح مساء من أيام تلك الزيارة في أواخر عام 2008م، متذكراً رواده من (باشوات) الإسكندرية و(بهواتها)، وسيداتها المفرطات في أناقتهن.. عندما كنت أذهب إليه (طالباً) مرة أو مرتين في (العام)..!!
لقد وصلت إلى (الإسكندرية) آنذاك.. عبر مطارها الصغير والشهير أو (المحندق) باللهجة المصرية: مطار (النزهة) الذي يقع جنوب شرق المدينة.. وعلى بعد دقائق معدودات من قلبها، وقد كان يجري الحديث وقتها وقبلها.. عن مطار جديد يتم إنشاؤه في غرب الإسكندرية: في منطقة (برج العرب)، التي لم أكن أعرف حينها أين تقع من (الإسكندرية).. وسط جدل مستعر بين معتمرين ورسميين مصريين في جدة.. قُدِّر لي أن أشارك فيه - مستمعاً - بين أن يقيمه (القطاع الخاص) ويتقاضى قيمته رسوماً في المقابل من شركات الطيران المستخدمة له، أو أن يقيمه القطاع العام (أو الدولة).. وقد كنت من أنصار هذا الرأي، لأن المطارات في فهمي وتقديري.. لا يصح أن تمتلكها شركات خاصة فضلاً عن أفراد بعينهم! لتشاء أقداري في هذه الرحلة.. أن يكون وصولي إلى الإسكندرية عن طريق مطار (برج العرب).. فأراه لأول مرة، ولأعلم فيما بعد.. بأنه كان في الأصل مطاراً عسكرياً صغيراً، ثم استخدمه الرئيس المخلوع كمطار خاص به ولطائراته وطائرات أعوانه.. إلى أن حلت (شرم الشيخ) - كمدينة بحرية - محل الإسكندرية عنده، ليقوم هذا المطار الواسع والكبير الذي يستقبل كل أنواع الطائرات باختلاف أحجامها من شتى دول العالم، والذي يبعد عن (الإسكندرية) بسبعين كيلاً، والذي يبدو أن القطاع الخاص هو الذي تولى إنشاءه.. على مستوى فرد أو أفراد أو شركات، إلا أنه ورغم ضخامته وتقنياته من جسور وشاشات وسلالم كهربائية متحركة، لكنه ليس في جمال الإسكندرية.. أو في جمال مطار (رفيق الحريري) الذي شيده القطاع الخاص في بيروت.. مثلاً، فهو بحاجة إلى كثير من (المكياج) كما يقول الفرنسيون، أو الـ (ميك أب) كما يقول الأمريكيون!
***
على أي حال.. منذ أن كتب رجال مصر الجميل والحاد والأخاذ الأستاذ: أحمد فؤاد نجم.. قصيدته الزجلية الرائعة عن (الإسكندرية).. بتكليف من كاتب مصر الدرامي الأول الأستاذ أسامة أنور عكاشة لتكون (تتراً) غنائياً موسيقياً لحلقات مسلسله الأروع (زيزينيا).. أو برغبته الشخصية، فإنني لا أذكر أنني ركبت الطائرة متجهاً إلى مصر.. إلا وتذكرت (الفاغومي) - وهو الاسم التوصيفي للأستاذ نجم - وهو يقول:
(والله عمار يا سكندرية.. يا جميلة يا مريا
وعد ومكتوب عليَّا.. ومسطر ع الجبين
لأشرب م الحب حبة وأنزل بحر المحبة
واسكن حضن الأحبة والناس الطيبين
***
حكايتك يا مريا.. حواديت وناس ودنيا
في حواري اسكندرية.. وليالي المنشدين
واما التاريخ يواكب.. ويزاحم بالمناكب
يتعبَّى في المراكب وغناوي الصيادين).
.. وهو ما فعلته هذه المرة، إلا أنني أرجأت البحث عن (عمار) اسكندرية الذي تحدث عنه (الشاعر) أو جمالها القديم الراقي الذي أعرفه أو الحديث الفاتن.. الذي جد عليها.. إلى ما بعد يومي الأول فيها، والذي خُصص لمناقشة (رسالة الدكتوراه) في إحدى قاعات مبنى (الأكاديمية) على طريق الزعيم جمال عبدالناصر - طريق الحرية سابقاً - بمنطقة (ميامي).. والذي فاجأني حقاً بـ (شدة) نظافته، وحسن تأثيثه، وانسجام مكوناته من المقاعد والطاولات والمكاتب والأرفف.. بل وبباقات الورود والزهور التي كانت تحيط بنا في قاعة المناقشة.. وقد تصدرها ممتحنان رئيسيان: خارجي وداخلي إلى جانب الأستاذ المشرف على الرسالة، وقد اصطف خلفهم وجاورهم عدد قليل من الحضور.. إلا أنه متميز في نوعيته، إذ إن معظمهم كانوا من الدارسين أو الباحثين.. ومن حملة الماجستير أو الدكتوراه، ليتقدم الممتحن الخارجي مفتتحاً الجلسة بحديث علمي موضوعي دقيق عن (الرسالة) وأهميتها في مناقشة مسؤولية البعد الاجتماعي الذي تتخلى عنها كثير من المؤسسات الاقتصادية الكبرى القادرة، وينظر إليها بعض رجال الأعمال.. على أنها عمل تطوعي إنساني: يُثاب عليه من يقوم به.. ولا تثريب على من يتخلى عنه، بينما الأمر على غير ذلك دينياً وأخلاقياً واجتماعياً.. كما قال الممتحن الخارجي، ليطلب المشرف على الرسالة من (الباحث) تقديم ملخص عن (رسالته) لتجرى مناقشتها فيما بعد، ورغم هيبة اللحظة ووقارها وسكونها المرعب.. استطاع (الباحث) أن يقدم بثقة ومهارة ملخصاً وافياً لرسالته، استحق معه ذلك التصفيق الذي استقبل به.. استحساناً لما جاء فيها، والذي كان من أبرزها.. قوله بأن (دساتير) معظم الدول المتقدمة تنص على تخصيص نسبة من أرباح الشركات والمؤسسات بل ورجال الأعمال.. خدمة للمجتمع وأبنائه، كرعاية الأيتام والمكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة.. أو رعاية الموهوبين من الطلبة بالمنح الدراسية الجامعية.. أو بناء المراكز والعيادات الطبية المتخصصة.. أو ترميم المباني ذات القيمة الحضارية والمعمارية.. إلخ.
بعد أن انتهت مناقشة الرسالة وقد امتدت لأكثر من ساعتين، انفرد الأساتذة (الدكاترة) بأنفسهم للتداول.. ليعلنوا بعد عودتهم إلى القاعة: منح الباحث درجة الدكتوراه بإجماعهم.. مع أخذه في الاعتبار لتلك النقاط التي أثاروها تمهيداً لطباعتها على نفقة (الأكاديمية)، ليتلقى صاحب الرسالة التهاني: قُبلاً وأحضاناً، وينصرف جمعنا.. بعد تلك الساعات الثلاث إلى مطعم الـ (فيش ماركيت) بـ (الجراند كافيه) المجاور لقلعة (قايتباي) الشهيرة، التي رأيتها كثيراً على شاشات الفضائية المصرية.. أيام أن كان يتسابق على مشاهدتها الملايين من المصريين والعرب بحد سواء، ويتنافس على الفوز بـ (امتياز) الإعلان فيها كبريات الشركات الإعلانية بعشرات الملايين.. لأرى (القلعة) عن قرب - بعد ترميمها - لأول مرة، بلونها الطوبي الجميل وقد أحاطت بها زرقة البحر ورذاذه، وتناثرت على ضفتيها قوارب الصيادين بملابسهم البيضاء والسوداء.. (السكندرانية) المميزة، ليكون طعامنا (كلام) أكثر من الزاد، و(أحاديث) متصلة تتقاطع ولا تنقطع بأكثر مما في أكواب عصير البرتقال والجوافة و(المانجا) التي شربناها.. بحثاً عن إجابة للسؤال الذي فرض نفسه: أين مصر.. الآن.. في هذه (اللحظات الانقسامية المؤلمة) من عمرها؟ ومتى تكون عودتها لـ (دورها السياسي) الرائد في المنطقة؟ وكيف السبيل إلى الحفاظ على دورها الحضاري والثقافي والفني.. الذي باتت تتهدده أفاعي (الجماعة)..؟!
***
كان أمامي (وزير) من وزراء ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير الرائعة، التي أطلقها شباب مصر الأبرار.. وخطفها (الإخوان) بألاعيبهم السياسية التي تمرسوا عليها، وبحرصهم المزيف على (مصلحة مصر)، وغوغائية خلطهم المقصود بين السياسة والدين.. وفتاواهم (العجيبة) بأن من يقول (نعم) للدستور المطعون على جمعيته التأسيسية أمام المحكمة الدستورية - المعطلة بحصارها من قبل فتوات (الإخوان) وبلطجيتها حتى لا تفتي بعدم دستوريتها - سيدخل (الجنة)، وأن من يقول (لا) سيدخل (النار)، وقد قدم استقالته في وزارتي (شرف) و(الجنزوري).. على التوالي، بعد أن يئس من (الحالة) التي وصلت إليها مصر برمتها.. في ظل رئيس انفرد بحكم مصر - وعطل كل ما عداه - بأقل من عشرة بـ (المائة) من أصوات المصريين(!!) لقد كان توتره وخوفه وقلقه على مصر.. وهي في يد (الإخوان)، يشبه قلق وخوف محافظ الإسكندرية.. المستقيل أيضاً، الذي شاءت المصادفات أن أجلس إلى جواره في (حفل العشاء) الذي أقامه نجم تلك المناسبة.. فقادنا (الجوار) إلى (مصر) والحديث عنها، لأسأله عن أسباب استقالاته المتعددة - كما علمت منه -.. فقال باختصار: (الإمكانيات)، فالمواطنون في الأحياء الشعبية - بعد الثورة - كـ (كرموز) و(الأنفوشي) و(بحري) و(اللبان) وغيرها.. يطالبون بعشرات المطالب المشروعة ولا أجد بين يدي ما يمكنني من الاستجابة لتحقيقها.. فكان لابد من الاستقالة، ليزيدني كلامهما خوفاً وقلقاً على مصر وهي بين يدي (الإخوان) لأربع سنوات أو ربما لـ (أربعين) سنة(!!).. أمام صورة الجوع لـ (السلطة) والشهوة لـ (الحكم)، التي أراهم ويراهم العالم - كله - عليها، لكن صحافة اليوم التالي.. كانت تفتح لي باباً من (الأمل)، وهي تنشر تفاصيل لقاء رئيس الاتحاد الأوروبي (هيرمان نيوري).. بالإمام الأكبر شيخ الأزهر (الدكتور أحمد الطيب)، الذي لم تحركه معاناته الطويلة مع (الإخوان)، والتي بدأت - بالاستخفاف به وبالأزهر - يوم الاحتفال بتنصيب الدكتور مرسي رئيساً للجمهورية.. قيد أنملة عن (مواقفه) وعن (وسطيته) و(وطنيته)، عندما أكد لرئيس الاتحاد الأوروبي.. بأن الأزهر هو (بيت الوطنية) الذي فتح أبوابه لكل التيارات والائتلافات والقوى الوطنية والفكرية والثقافية.. لتجتمع في رحابه (لم يقل إنه كان من بينهم الدكتور مرسي ممثلاً لجماعة الإخوان!).. حيث أثمرت اجتماعاتهم وإجماعهم عن عدة (وثائق تاريخية) حددت معالم المستقل، ومن بينها بالتأكيد (وثيقة الأزهر).. التي أهملها (الإخوان) وهمشوها عمداً وقصداً.. بل وعادوها وعادوا مَن نجح بـ (إيمانه) ووسطيته ووطنيته في جمع تلك الأطياف على كلمة سواء، لكن الحق أحق أن يتبع.. وسيعود إليها المصريون ذات يوم قريب برضا (الجماعة) أو بدونه، لأنها (وثيقة) اعتمدت على شرعية دينية وطنية، وحضارية تاريخية لا يختلف عليها اثنان بـ (أن مصر لكل المصريين)، وليست لحزب بعينه.. ولا لجماعة بعينها.. قصر الزمن أو طال.
dar.almarsaa@hotmail.comجدة