وزارة الصحة من أهم الوزارات التي تلامس حاجيات الناس الضرورية والتي تلابسها عواطف المرض والألم والتي تزيد من حساسية المواطن تجاه أي تقصير يراه أو يُخيل إليه ولو كان نابعاً من تصرف فردي. ووزارة الصحة كانت كغيرها من الوزارات شبه متعطلة عن التطور والنمو، وكافحت بالاقتيات على نفسها لتعيش في العشرين عاماً العجاف قبل طفرة البترول الحالية، والتي قد جاءت ولم يبق إلا العظم والجلد من هذه الوزارة. والصحة ليست فقط جداراً يُبنى ومعملاً يُركب بل هي مركب معقد ورفيع المستوى علمياً وخبرة لبنية عقلية بحثية إنشائية توعوية. فهذه البنية تنقسم إلى قسمين علمي وإنشائي. فالعلمي ومنه ثقافة فن التعامل والتواصل مع المرضى والأبحاث لا يأتي إلا بعقود من الزمن، وهذه هي الجودة النوعية أو الكيفية. وأما القسم الإنشائي فهو على تعقيداته الطبية فهو أسرع تنفيذاً لسهولة اختيار أفضل التجارب الموجودة عالمياً، وهذه هي الجودة الكمية. ولتوضيح الفرق بين الاثنين، فروسيا مصنفة على أنها من الأعلى عالمياً بعد اليابان في عدد الأسرة لكل مواطن (الجودة الكمية) كما أنها مصنفة بأنها الأسوأ عالمياً من حيث الجودة الكيفية والنوعية في الخدمة الطبية.
وأنا رجل من الشارع، كنت أعتقد أن الوزارة قد انصرف همها عن المشاريع الفورية إلى المشاريع الإستراتيجية التي تبني البنية الصحية المثلى ككل واحد. وبخاصة أن الوزير جراح عالمي قضى حياته عملاً وبناء في دهاليز أرقى المستشفيات العلمية الصحية في بلادنا، فهو يريد أن يجعل الصحة كلها أفضل من التخصصي ومن الحرس الوطني اللذين هما من المستشفيات الأرقى عالمياً جودة طبياً وبحثياً وعلمياً. وقد أدركت أن اعتقادي هذا فيه صواب وخطأ بعد أن جمعنا رئيس التحرير -الأستاذ خالد المالك- بالوزير وبمجموعته التنفيذية الفاضلة علماً وخُلُقاً يوم السبت الماضي ليكشفوا لنا بالأرقام ما تخفيه وزارة الصحة عن الناس من إنجازات وآمال ومعوقات.
فأما الخطأ الذي كنت أعتقده هو أن الوزارة قد انشغلت بالمشاريع الإستراتيجية المثلى وأهملت الإنجازات القصيرة الأجل (الكمية). مشاريع سريعة هدفها فك أزمة العشرين عاماً العجاف، والتي تعمل مثل «كباري الحديد» تمشي الحال حتى الانتهاء من المشاريع الكبرى. ولكن الأرقام تثبت أن الوزارة قد بذلت جهوداً كبيرة في السنوات الأخيرة في هذا المجال (الزيادة الكمية). وذلك بزيادة عشرة آلاف سرير بنهاية السنة الحالية في مدن كثيرة وبعضها متخصصة. فمن يعلم أن السعودية من حيث التصنيف الكمي -لعام 2005- 2011 - تتقدم في عدد الأسرة الطبية لكل مواطن على سويسرا وقطر والإمارات والكويت.
وأما اعتقادي الذي وجدته صحيحاً هو أن للوزارة خططاً إستراتيجية تعمل عليها وبدأت في تنفيذها لرفع نوعية الخدمة الطبية في بلادنا، والتي تُصنف السعودية عالمياً اليوم على حسب مؤشر الخدمة الطبية بتصنيف غير جيد. ورفع المستوى النوعي للخدمة الصحية ليس كالمستوى الكمي فهو أمر يحتاج إلى طول زمن وتخطيط دقيق. وهو لا يتم إلا بأيد وطنية. فلن يوجد طبيب ناجح يترك بلاده ليعالج العرب، فإن كان ناجحاً فسيجد المال والتقدير في بلاده. ولو أراد القدوم لفترة فهو يفضل دول الخليج الأخرى، لأنها أقرب ثقافة إليه.
وخطة الوزارة الإستراتيجية العامة لتحسين نوعية الخدمة الطبية تكون بوسيلة إلغاء المستشفيات الصغيرة التي لا تجذب الأطباء ولا يثق بها المواطن ولا يمكن توفير أعلى التقنيات في كل منها، والتركيز على إقامة مدن طبية ضخمة على مستوى عالمي في عدة مناطق في المملكة تخفض الكلفة وترفع الأداء والجودة بضخامتها وتجذب الأطباء العالميين محلياً ودولياً وتكون صروحاً للتعليم والأبحاث ومراكز تخصصية عالمية. وهذه المدن الطبية تستقبل المرضى من أنحاء المملكة المحولين من المستشفيات والمراكز الصحية المنتشرة في القرى والمدن.
هذه الإستراتيجية لا يجادل عاقل أنها تحتاج إلى زمن وتخطيط دقيق ولا يوجد حل عملي آخر لرفع جودة الخدمة الطبية على المستوى الإستراتيجي إلا هذا الحل. والوزارة لم تغفل عن المشاريع الآنية والتي ذكرت بأنها خلال الخمس سنوات الماضية تمثلت تقريباً في إنشاء 800 مركز صحي و 100 مستشفى جديد تقريباً بعشرة آلاف سرير نصفها مشغل الآن ونصفها الآخر مع نهاية هذه السنة.
فلماذا تخفي وزارة الصحة ما قامت به من مشاريع خدمة صحية كمية في السنوات الماضية وما خططت وبدأت العمل به من مشاريع نوعية يستحيل أن تنجز في وقت قصير، ولماذا تسكت عن إصرارها أن تجعل المجال الصحي مجالاً سعودياً قائماً على السعوديين إذ أثبت الأطباء السعوديون تميزهم بنسبة عالية بينهم لم تحققها التخصصات الأخرى، والناس تثق بهم وتفضلهم على الأجنبي كذلك، بخلاف التخصصات الأخرى. والمدن الطبية ستعمل على خلق هذه الجودة السعودية في التخصصات الطبية المساندة الأخرى. وهنا همسة لمعالي الوزير الفاضل الفخور هو والشعب السعودي بالأطباء السعوديين، بما أن هذا من أهم أهدافه والعقل البشري هو أهم عامل في رفع كفاءة الخدمة الصحية فإنه «لا يُخدم بخيل». فيا ليت أن يُرفع من مستوى مداخيل الكوادر الطبية في وزارة الصحة إلى مستوى المستشفى التخصصي لا أن يُنزل بكوادر التخصصي الطبية بإيقاف العلاوات السنوية (كما سمعت إن لم أكن مخطئاً ولا علاقة لي بأحد منهم مطلقاً لا التخصصي ولا وزارة الصحة).
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem