يبلغ راتب المدرب الهولندي فرانك ريكارد المفسوخ عقده بعد هزائم المنتخب في السنة 26 مليوناً، وفي الشهر الواحد مليونَيْن و166 ألف ريال فقط! أي أن الأخ الفلتة ريكارد يتقاضى أضعاف أضعاف ما يتقاضاه مديرو أكبر الشركات والبنوك الناجحة لدينا، مثل أرامكو وسابك وسامبا وساب وغيرها!
وقد كان ذكياً محتاطاً لأمر الإلغاء عند الرغبة في التخلص منه؛ فكان لا بد أن يعمل أسنان منشاره في خزان المال السعودي فيأكل مقبلاً مدبراً! فشرط فسخ العقد ثلاثة ملايين و500 ألف يورو، أي 18 مليون ريال! وقد تكفلت جهات مختصة بدفع هذه الملايين للمدرب الفلتة للتخلص منه ومن هزائمه بعد أن تهاوت الآمال المعقودة عليه للخروج بمنتخب قوي ينافس على مستوى العالم!
ويبدو أن المسؤولين عن الرياضة قد تورَّطوا بهذا المدرب كما تورَّطوا من قبل بمدربين ولاعبين تم التعاقد معهم لاكتساب الخبرات وللارتفاع بمستوى الأداء، ولكن الجدوى من التعاقد معهم بملايين الريالات لم ترتفع بمستوى منتخب معاق، لم ينهض يوماً، ولم يكن منافساً كما ينبغي على مستوى العالم؛ لأن ثمة سبباً جوهرياً كامناً، يضرب في عمق إدارة كثير من المؤسسات لدينا، وهو سوء الإدارة، وتداخل المصالح، وتقاطع التنافس.. إنه الفساد الإداري الذي لم يقعد بالرياضة فقط عن التقدم إلى واجهة المنافسة العالمية بل كان سبباً لتعطل وتردي بعض مؤسساتنا ووزاراتنا؛ فأصبحنا نقرأ أرقاماً بالمليارات، ولا نرى إنجازات بحجم ما يُنفق!
شكراً لهذا الكرم الحاتمي الذي يُمنح لمدرب، يبدو أنه ينقط عسلاً أو يرفع قدماً من ذهب ويخفض أخرى من ألماس، شكراً لمليوني ريال ومائة وستة وستين ألفاً تصب صبا في حساب مدرب لعبة كرة، لا في معمل عالم فيزياء، ولا في مختبر طبيب موهوب ربما يكتشف علاجاً للسكر أو لضغط الدم أو للجلطات أو لتعسر الحمل أو للتشوه الجيني أو للسرطان أو للعشى الليلي أو النهاري، أو لموهوب من أبنائنا ينقصه المال فقط لينهض بمشروع علمي أو اقتصادي أو ثقافي مبهر!
إن هذا السخاء المشكور لن يشفي الرياضة السعودية من أمراضها المزمنة، ولن يخرجها من انكسارات الفشل المتوالية في الملاعب العالمية!
فلِمَ لا ينهمر سخاؤنا على النابهين والمبدعين من أبنائنا؟ لِمَ لا تنفَق عُشْر أموال الرياضة السعودية على ما ينهض بالوطن ويحفز موهوبيه ومبدعيه الذين ينتظرون مَنْ يمد لهم يد العون والمساعدة؟!
إن أستاذاً كبيراً بالجامعة، أو باحثاً كبيراً في مؤسسة علمية، أو مبدعاً في الشعر أو القصة والرواية والسيرة والتاريخ، لن يحلم حتى بفكة راتب ريكارد كل شهر!
لقد أُنفقت المئات من الملايين على الكرة السعودية البائسة والأقدام الناحلة المغبرة التي يزج بها من الحواري إلى أفخر ملاعب العالم، فما أجدى هذا السخاء شيئاً، وما رفع رايتنا عالية خفاقة في محافل العالم الرياضية؛ لأن التقدم أو التخلف لا يتجزآن ولا يُمنحان بالتقسيط؛ فإما أن يأتي التقدم جملة واحدة في جل المواقع أو أكثرها لتوافر أسبابه ودواعيه، أو أن يرزح المجتمع تحت وطأة التخلف جملة أيضاً في معظم مناحي الحياة لتوافر أسبابه ودواعيه!
لا أمل في علاج الفشل في الرياضة السعودية إلا حين نتوجه صادقين إلى معالجة أسباب تعثر نهضتنا الحضارية في كثير من المجالات، ليس في الرياضة فقط؛ فعلاج الفساد والتواكل والمحسوبية وسوء الإدارة وتأخر إنجاز المشاريع الضرورية اللازمة للحياة وتسيد الروح المحبطة اليائسة بسبب ذلك في نفوس المخلصين هي أسباب للتخلف العام والفشل في إنجازات مبهرة كثيرة، وليست الرياضة إلا الوجه المكشوف منها!
شكراً للكرم الحاتمي، لكن بيننا مليون ريكارد محتاج إلى ملايين الرياضة التي تكب في الهواء وتحت أقدام اللاعبين؛ لنبني بها مصنعاً أو منجزاً حضارياً!
moh.alowain@gmail.commALowein@