من خلال حضوري لعدد من ندوات جريدة «الجزيرة» مع أصحاب المعالي الوزراء تكوّن عندي انطباع جديد عن المتغير الأهم خلال الحقبة الزمنية الحالية، فقد أصبح معالي الوزير يُرحب بالنقد، ويتلقى الأسئلة برحابة صدر وابتسامة عريضة، ويحاول قدر إمكانه أن يعطي إجابة مقنعة للقراء والجماهير، وليس فقط لصاحب السؤال، وهذا النهج يخالف النمط القديم، الذي يجعل من معالي الوزير في حصانة عالية من تساؤلات المواطن والإعلام. وفي ذلك نقلة جديدة، لأن الغرض من تولي حقيبة الوزارة هو خدمة المواطنين ورعاية مصالحهم، وليس خدمة أغراض محدودة بمصالح خاصة، وقد نصل إلى استنتاج مفاده أننا بالفعل دخلنا مرحلة جديدة في فلسفة الإدارة، لكنها ما زالت غير مكتملة وتنتظر نقلات أخرى في اتجاه المحاسبة والشفافية.
سبق وأن أكد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- في أكثر من مناسبة بضرورة الحرص على تطوير الخدمات، وتقديمها لكل محتاج من المواطنين، والتعامل بشكل جاد وفوري مع التظلمات والشكاوى، التي يقدمها المواطنون لتلك الجهات، وتلافي أي تقصير في خدمة المواطن، وقد ظهر ذلك في سرعة تجاوبهم مع الأسئلة ووقوفهم أمام كاميرات وأقلام الإعلام، لكن ذلك ما زال قاصراً نوعاً ما، إذ عادة ما يكتفي معاليه بتقديم جواب مختصر عن حيثيات قرار ما، ويمتنع عن تقديم إجابة مفصلة وبالأرقام عما يتداوله في الإعلام، ومثال ذلك أن يعلن معالي الوزير أن 50% أو 70% من ميزانية الوزارة تذهب في الرواتب، لكن عادة ما يجد الإعلامي أو المواطن نفسه في موقف صعب للمطالبة بإجابة أكثر شفافية، وذلك لعدم وجود موقف قانوني يتحدث من خلاله، وقد يدخل ذلك في الاتهام في الذمم، لذلك عادة ما تتوقف الأسئلة عن خط أحمر لا يتجاوزه صاحب السؤال.
تدخل كثير من الندوات في زاوية العلاقات العامة للوزارة، وفي نهاية الأمر تذهب الأسئلة الجريئة أدراج الرياح، وتنحصر الأجوبة في مصطلحات مثل أن الوزارة تحرص على خدمة المواطن، والحديث عن الرؤية المستقبلية وإستراتيجيات غير قابلة للتطبيق، وفي ظل غياب المتابعة والمحاسبة أمام جهة قانونية قادرة على تمثيل الناس أمام المسؤول، سنجد أنفسنا محصورين في دائرة ليس فيها مخرج، لأن معاليه غير مخول، وليس مضطراً في أن يعطي إجابات مفصلة أمام الجماهير والإعلاميين، لكنه يظهر مهارات غير عادية في تلقي الأسئلة من كل صوب، وفي إعطاء إجابات دبلوماسية مقتضبة، ثم العودة إلى برجه الإداري الرفيع.
كثير من اللقاءات مع معالي الوزير تتسم بمواجهات ساخنة عن قرار ما تم إصداره، ثم واجه احتجاجات واعتراضات، والسبب أن القرار لم تتم دراسته من الجهات المعنية قبل إقراره، ولكن تم إصداره بصورة مفاجئة، ثم جعل الناس يختصمون فيه لفترة طويلة، مثلما حدث مع قرار وزارة العمل في وضع تكلفة سنوية إضافية على العامل الأجنبي، يدفعها صاحب العمل، وقد حدثت موجات احتجاج من أصحاب المصالح، وكان من الأنسب أن تتم صناعة القرار من خلال دائرة أوسع قبل إصداره، كذلك واجه قرار الكادر الصحي موجات عارمة من الاعتراضات من المستشفيات المرجعية، وكان السبب صدوره بدون أخذ إفادة الجهات المعنية ومجلس الشورى، قبل إطلاقه للتطبيق، أو دراسته من قبل خبراء سواء من الداخل أو الخارج إذا لزم الأمر قبل أن يخرج للتطبيق المباشر.
في نهاية الأمر تم كسر الحاجز القديم بين المسؤول والإعلام، لكن تجاوز هذا الحاجز ما زال ينتظر حلقات جديدة في التطور الإداري، ومنها أن تبدأ محاسبة معالي الوزير على أدائه الخدماتي، وقبل ذلك أن تخرج عملية إصدار القرار من الدائرة الضيقة، إلى الإعلام والجهات المعنية وتداول تطبيقاته وتفاصيله قبل إصدار القرار الخدماتي، ولا يمنع أن تتم دراسته وعمل الاستفتاءات الشعبية التي تساعد في الوصول إلى صيغة مناسبة لمصالح الناس، وفي ذلك تهيئة مناسبة للمعني بالقرار وفي الحد من الاعتراضات والاحتجاجات ضد القرار، مما يؤثر على بيئة العمل في المجتمع.