كنت منذ أربعين سنة خلت مُولَعاً بالشيخ الطنطاوي، أتسقّط أحاديثه أينما وجدتها، كنت مُولَعاً بقدرته على التواصل الحيّ مع الآخر، معجباً بانفتاحه على قضايا العصر.. ومغرماً بأسلوبه في طرح تلك القضايا بلغة سلسة أخّاذة، وبالاستناد إلى الواقع الحيّ في السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم.. والحق أنّني نسيت الأمر في زحام الحياة حتّى قرأت كتاب الدكتور أحمد آل مريع “كان يوم كنت” فاهتززت من جديد لذكرى الشيخ الطنطاوي.. ولكن لم أهتزّ في هذه المرة لأدبه وفكره الوقّاد فحسب، بل لفتت انتباهي هذه المقاربة الجديدة الطريفة التي ابتكرها الدكتور آل مريع، وأراد إجراءها على أدب علي الطنطاوي وهي مفهوم “الكنتية”.. اكتشفت الشيخ الطنطاوي مرّة أخرى.. اكتشفت أعماله كما قدمها الدكتور آل مريع، ولكنّي اكتشفت كذلك أنّ لنا في النقد العربي الحديث بواكير فكر جديد يعمل أصحابه على تأصيل الأجناس الأدبية السردية المُشاكلة للتاريخ في تربة الثقافة العربية.. وفعلاً فقد قرأت أيضاً للدكتور آل مريع كتاباً مهمّاً عن السيرة الذاتية ففهمت أنه ملمّ بأدبيات هذا الجنس الأدبي في الغرب.. ولكنني بقراءة كتاب “كان يوم كنت” أدركت أنّ الباحث يسعى إلى تجنيس كتابة الذات أو كتابة السيرة الذاتية في المناخ العربي.. في البيئة الثقافية والروحية العربية.. وقد وجد في أدب الطنطاوي المثال الجيّد لهذه التجربة النقدية اللافتة للانتباه.. والتي ينبغي لعلماء الشعرية السردية الانتباه إليها.. لقد ألّف في التنظير للسيرة الذاتية الغربية رجالٌ كثر مثل جورج قيزدورف وفيليب لوجون ولكنهم انطلقوا من التجربة الغربية في العصر الذي سادت فيه قيم “الأنا” وقيم الفردانية حتّى قال أحد أعلامهم وهو جورج ماي في مقدمة كتابه السيرة الذاتية: “إن السيرة الذاتية جنس أوروبي”.. وفعلاً فقد عوَّل كثيرٌ من الدارسين العرب على نظرية السيرة الذاتية عند الغربيين في قراءة كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ وأيام طه حسين وحياتي أحمد أمين وأنا وحياة قلم للعقاد وغيرهم ولكنهم ظلوا أسرى لهذا الفكر الأدبي ولما يستند إليه من خلفيات حضارية.. وإني أرى في مشروع الدكتور أحمد آل مريع مسلكاً للخلاص من هذه التبعية النقدية.. وشكلاً من أشكال التأسيس والتأصيل لهذا الجنس الذي بيّن من خلاله الباحث أن “كنت” ليست فعلاً قولياً سردياً دالاً على الماضي كما أدركته السيرة الذاتية الغربية وهي تنظر إلى الماضيبعين الحاضر، بعين الراوي المتماهي مع الشخصية بل إن الكنتية - عند علي الطنطاوي وربّما عند غيره - هي امتلاء للذات بالتاريخ الذي صنعته مع غيرها ولكن بعيداً عن الأنا البغيض الذي تفوح به رائحة السيرة الذاتية في الغرب وفي بعض التجارب العربية ذات الاتجاه الفرداني.. نعم لقد سبق فعل الماضي المسند إلى الغائب أو الزمن “كان” الفعل المسند إلى الأنا فسبق الموضوعي الأناني أو الذاتي، والعام الخاص، وكان تيار الزمن الزاخر بحدثان الحياة مقدّماً على قصة الحياة المتفرّعة عنه.. ولقد مثّل كتاب الدكتور أحمد آل مريع - فيما نعلم - أولى لبنات البحث في السيرة الذاتية المنخرطة بكل تواضع في فعل “كان يا مكان” الذات الأصيلة من خلال ابتكار مفهوم الكنتية، وهو بحقّ مفهوم يحمل طابع هذا الباحث عن الجذور وسمات النقد العربي المستشرف للفعل حديث ولكن الأصيل أيضاً.. ولعمري إن اختيار البحث في أدبيات الشيخ الطنطاوي بخاصة وسردياته على وجه أخصّ هو في ذاته اختيار للتعبير عن أصالة حديثة وعن حداثة أصيلة.