مع بداية السنة الميلادية الجديدة، تكثر في المكتبات العالمية كتب ودلائل سنوية إحصائية واستشرافية في مواضيع عن الإستراتيجية والعلاقات الدولية وبخاصة عن الوطن العربي،
يكون المؤلفون والكاتبون من الدول الغربية وتعتمد تحاليلهم عنا على أنها مفاتيح الفهم وأخذ القرار ونبقى دائما غائبين عن الساحة الدولية لفقر المنتوج الفكري الذي يصلنا منا إليهم.
ولا غرو أن الدلائل والكتب السنوية والمجالات الأكثر وجودا وذكرا في الجامعات العالمية ومراكز الأبحاث هي أمريكية بالدرجة الأولى. والوطن العربي يفتقر إلى كتب عن الإستراتيجية والعلاقات الدولية تعتمد على منهجية محكمة في التحليل وجمع الأخبار والمعلومات بطريقة ذكية وهادفة، وتبقى بعيدا من ذلك السيل من النصوص التي هي إلى الوصف واجترار الدروس أقرب منها إلى المادة الفكرية والعلمية، والتي هي أيضا إلى الملفوظات المتراكمة والشطح اللغوي الذي تردد فيه كلمات غامضة، أكثر منها إلى التراكم العلمي والمنهجي القابل لسبر أغوار الفكري السياسي والإستراتيجي الصحيح.
وحتى الإنتاج الفرنسي الذي يرجع إليه معظم الباحثين المغاربيين يبقى ضعيفا جد مقارنة مع الإنتاج الأنغلوساكسوني خاصة الأمريكي منه؛ فعدد الدلائل والكتب السنوية والمجلات المتخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية تدل على ذلك خاصة إذا أخذنا في الحسبان عدد الناشرين وقوة الدعومات المالية المقدمة وتشابك العلاقات بين تلك الإصدارات وآخذي القرار في أمريكا في الكتب السنوية الأمريكية... فغالبا ما تكون قضية جمع الجامعيين مع المسؤولين في كل القطاعات والخبراء غير الجامعيين هي في قائمة أولوياتهم، على خلفية مركزية وقوة هذا الجمع في التحليل المقنع واستشراف المستقبل وبناء وعي فكري جديد ليعيدوا النظر في بعض أوهام عقائد المراحل الماضية ويدشنوا لحقبة من النظر الهادف تكون أجزل عطاء.
ولا يخفى على كل متتبع حصيف أن القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم خاصة الغربية منها، تتأثر بما تقدمه مراكز الأبحاث الفكرية من دراسات وتقارير، بل إنها تؤثر على الرأي العام عن طريق مجموعة من الأساليب المتقنة، وإذا أخدنا مثال الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإحصائيات تشير أنها تتوفر على ما يزيد عن 1400 مركز ومؤسسة تعنى بالعلاقات الدولية، منها مؤسسات تقدم دراسات وأبحاثا متخصصة في القضايا السياسية كمجلس العلاقات الخارجية الذي يصدر دورية شهرية وهي شؤون خارجية، ومنها مراكز الضغط السياسية التي تستخدم نتائج أبحاثها للضغط على الإدارات الأمريكية في صناعة القرار كمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون؛ وهناك مراكز خلقت للدفاع عن مصالح إسرائيل كمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي للدعاية لإسرائيل في المجالات الأمنية والعسكرية أو ما تسمى بالأذرع الفكرية الإسرائيلية في واشنطن، وهذه المراكز تتوفر على إمكانيات مادية وبشرية ضخمة وتؤثر بشكل جلي على السياسة الخارجية الأمريكية.
أما في عالمنا العربي، فمازال عدد ودور هذه المراكز محدودا على الرغم من وجود قدرات فكرية وكفاءات بشرية متميزة يمكنها أن تساهم في التجدد المعرفي والتخطيط المستقبلي بل ويمكنها أن تساهم في التأثير على السياسات العامة الداخلية والخارجية؛ وهذا كنه أنشطة المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية وعلى رأسها منتديات فاس ومنشوراتها المختلفة وعلى رأسها الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات الدولية السنوي والتي نتمنى أن تعمم على صعيد الوطن العربي.
وطننا العربي في حاجة إلى كتب إستراتيجية سنوية ودلائل تكون موجهة إلى الطالب والباحث والأستاذ؛ وتكون موجهة إلى مراكز الأبحاث وصياغة القرار ورجالات الدولة والاقتصاد؛ وتكون موجهة إلى الدبلوماسيين والمنظمات الدولية والجهوية، وغيرها في القارات الأربع، وتكون طبعاتها محافظة على درجة عالية من المسؤولية والحرفية ليبقى العهد موصولا مع كل القراء وآخذي القرار.
نحن في حاجة إلى كتب إستراتيجية سنوية ودلائل تكون سابقة في الإنتاج الفكري المعتمد، ينضج بشكل جماعي في نطاق مراكز أبحاث في سعي دءوب منا إلى مراجعة الكثير من الأخطاء وتوثيق ما يجب أن يوثق في بنك من المعلومات وإعطاء تحليلات علمية وفكرية تكون مبعث شعور بالارتياح لاتساع المشترك بين المختصين والمثقفين
ثم إن مفهوم الإستراتيجية ليس محدودا بالهيمنة العسكرية أو التخطيط العسكري؛ وينبغي توضيح هذه النقطة للباحثين والمهتمين عندما يدرسون مثل هذه المفردات والمفاهيم؛ وحتى الأمن القومي فهو يتمثل في أكثر من مجرد استخدام الجيش، ويتطلب تطوير وتوظيف جميع عناصر القوة التي تمتلكها الأمة؛ وعلاوة على ذلك فإن الأمن القومي يشمل المكونات الداخلية الخارجية، وهذا يزيد من تعقيدات ترسيخه على أرض الواقع؛ وبمصطلحات مبسطة حسب ما كتبه الخبير هاري آر.يارغر يمكن القول إن الإستراتيجية في جميع مستوياتها معرفة بأنها حساب الأهداف والمفاهيم والموارد ضمن حدود مقبولة للمخاطرة، لخلق نتائج ذات مزايا أفضل مما يمكن أن تكون عليه الأمور لو تُركت للمصادقة أو تحت أيدي أطراف أخرى. والإستراتيجية تعرف رسميًا في المنشورات المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية في الفقرة 1 البند 02 بأنها: “فكرة أو مجموعة أفكار حكيمة من أجل توظيف أدوات القوة الوطنية بطريقة منظمة ومتكاملة، لتحقيق أهداف معينة في مسرح العمليات وأهداف وطنية أو متعددة الجنسيات”.
يمكن فهم الإستراتيجية كما كتبت ذلك مرارا بطريقة أفضل على أنها “فن” و”علم” تطوير واستخدام القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية ـ السيكولوجية والعسكرية للدولة المعنية بصورة منسجمة مع توجيهات السياسة المعتمَدة، لخلق تأثيرات ومجموعة ظروف تحمي المصالح القومية وتعززها مقابل الدول الأخرى، أو الأطراف الفاعلة الأخرى أو الظروف والمستجدات. وتسعى الإستراتيجية، وهو ما يسعى إليه هذا الدليل، إلى إيجاد التآزر والتناسق والتكامل بين الأهداف، والطرائق، والموارد، لزيادة احتمالية نجاح السياسة، والنتائج الإيجابية التي تنجم عن ذلك النجاح. فهي عملية تسعى إلى تطبيق درجة عالية من العقلانية والاتساق لمواجهة ظروف قد تحدث وقد لا تحدث. وعلى رغم تعقيدات هذه المهمة، فإن الاستراتيجية تحققها من خلال عرض مبرراتها ومنطقها في مصطلحات عقلانية ومتسقة، يمكن وصفها ببساطة بأنها غايات وطرائق ووسائل. وأفضل طريقة لفهم الإستراتيجية هي وصفها بأنها دليل سياسي لبلوغ الوضع المنشود. ولكن مثل هذا الدليل يمكن أن ينطبق على الغايات المحددة، والطرائق، والوسائل المستخدمة في الإستراتيجية.
إن صياغة الإستراتيجية تجمع بين الفن والعلم. ومن زاوية كونها فنا، يمكن تفسير صياغة الإستراتيجية على أنها ساحة للعبقريات النادرة، حيث يتواصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم إلى حلول عظيمة لقضايا معقدة بشأن السياسة والدبلوماسية والاقتصاد وهلم جرا. ولا يمكن إنكار دور العبقري الحقيقي، ولكن ليس هناك سوى دول قليلة في البيئة الدولية الحالية التي تتسم بالدينامية تستطيع تحمل عواقب الانتظار إلى حين وصول عبقري يعول عليه. ويمكن أن يطمئن العدد الأكبر من محترفي الأمن القومي لحقيقة كون الإستراتيجية علما أيضا. وهذه الحقيقة توحي بأن صياغة الإستراتيجية يمكن أن تراقب، وتكتب عنها النظريات، ويمكن أن يتم تحسين مستوى تطبيقها من خلال الدراسة والخبرة. وبالفعل هناك مؤلفون بارزون ومشاهير كثر مثل صن تزو، وكارل فون كلاوزفيتر، وكولن جراي، اعترفوا بأهمية الفن والعبقرية في صياغة الإستراتيجية، وقدموا الهيكل النظري والملاحظات التي تساعد على فهم أفضل لممارسة صياغة الإستراتيجية.
فعالم العلوم السياسية مثلا لا يمكن تصوره في معزل عن علوم العلاقات الدولية والعكس صحيح؛ فهما مجالان مترابطان أيما ترابط؛ فيخطئ الباحث عندما يظن أن العلاقات الدولية يمكنها أن تدرس ويكتب عنها بصفة منفردة: فأي تصور دولي هو جزء من العلوم الإنسانية والسياسية؛ وأي جهل لهذا المنطق قد يؤدي بالبحث إلى جعله مبتورا.