الثقب الأسود يشفط كل ما يقترب منه ويحوله إلى ركام. إحدى المحافظات الكندية علقت لوحة تحذير على الطريق السريع يقول بالإنجليزية: هدئ السرعة، أنت لست في المملكة العربية السعودية. الكاتبة الأمريكية المشهورة كارين هاوس قالت في مقابلة معها في جريدة الحياة السعودية قبل أيام: أنا كأجنبية لا أخاف من أي شيء في السعودية سوى من المرور. وزارة الصحة السعودية تقدر استهلاك خمس جهودها الطبية والتمريضية والتأهيلية والمالية على حوادث المرور. حوادث الوفيات والإعاقات السنوية في السعودية بلغت أرقاما فلكية مخيفة وتأتي في المرتبة الأولى عالميا. المجالات التي تتداخل فيها مشاكل المرور في السعودية لا حصر لها، تبدأ من التوتر الشديد وتحطيم الأعصاب وارتفاع الضغط والسكر وهيجان القولون، مروراً على الكسور والجروح والنزيف والإعاقات الجسيمة التي كثيراً ما تنتهي بالإعاقات الدائمة.
ما هي الخسائر التي تستنزفها حوادث المرور وتستقطعها من المجهود الصحي في المملكة؟
الخسائر تبدأ فوراً من مكان حادث الاصطدام بالقتلى والجرحى والتلفيات المادية، ثم تعطيل المرور وشل الحركة على الناس، ثم نقل المصابين إلى المراكز العلاجية، ثم التحقيق في أسباب الحادث وتقدير تكاليف الإصلاحات وتقسيم الأضرار.
في المستشفى يستقطع جزءاً كبيراً من وقت وجهود الأطباء والتمريض وأقسام التحاليل الطبية والتصوير الإشعاعي على التعامل مع الحوادث اليومية، وقد تصل إلى خمس وعشرين بالمائة من طاقة المراكز العلاجية والمستشفيات. بعد ذلك تأتي كميات الدم والبلازما والأمصال والحقن وأكياس المحاليل الطبية وكميات الضماد والشاش والمسكنات والمضاذات الحيوية وقضبان التثبيت الطبي.. إلى آخر القائمة. على مستوى الطاقة السريرية التي نعاني فيها عجزاً مزمناً تستقطع الحوادث قرابة الخمس وعشرين في المائة أيضاً. بعد استقطاع الوفيات الفورية واللاحقة تأتي الإعاقات الجزئية والدائمة وفقدان القدرة على العمل الجزئي أو الكلي ومصاريف إعادة التأهيل والعجز الجنسي والأمراض النفسية المترتبة على كل ذلك.
لدينا مأساة حقيقية مع حوادث المرور. لدينا ثقب أسود يشفط ربع ميزانية وزارة الصحة والخدمات الطبية المساندة وربع جهودها الطبية والتمريضية والسريرية والتأهيلية، والمأساة ترتفع يوما بعد يوم.
في هذه البلاد لن ينفعك رخصة سير من إحدى الدول الاسكندنافية أو اليابان. في مجال السير عندنا يتساوى من هو بلا رخصة سياقة من المراهقين والمقيمين اللاشرعيين مع من لديه رخصة سياقة محلية أو هندية أو من أدغال إفريقيا أو اسكندنافيا. الكل يقود بنفس الطريقة الفوضوية، لا يلتزم بالمسار الذي هو فيه ولا يستعمل إشارة تغيير المسار ولا يقف أمام النور الأحمر وينحرف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس متى خطر له ذلك، ويأخذك عمدا بعنصر المفاجأة ويتركك ناشف الريق تلعن نفسك أن اضطررت إلى استعمال السيارة في مثل هذه الظروف.
الالتزام بقوانين السرعة في شوارعنا تأتي كمجرد احتيال مؤقت وضحك على شنبات نظام ساهر، والبركة في السائقين الشباب والأجانب الذين يعرفون تفاصيل ومواقع ومخابئ ساهر أكثر من أهله.
في لقاء قريب في مقر صحيفة الجزيرة مع معالي وزير الصحة وطاقمه الاستشاري طلبت منهم بإلحاح التوسل إلى السلطات العليا في الدولة أن تمارس أشد الضغوط على الإدارات العامة للمرور، وأن تزودها بكل الإمكانيات البشرية والتقنية، لكي تستطيع أداء دورها المطلوب بكفاءة وباحترافية وبوطنية صادقة.
يجب أن تنتهي المأساة المرورية في شوارعنا بأقصى سرعة وأن نتعلم رغم أنوفنا طرق القيادة الآمنة المهذبة مثل شعوب الأرض الأخرى.