أطل علينا نحن طلاب المرحلة المتوسطة في المعهد العلمي بحوطة بني تميم عام 1391هـ شاب أنيق لا يخلو من وسامة وقد اعتمر بعقال وغترة بيضاء ناصعة وجزمة سوداء جديدة، ولحية رسمية صغيرة مرتبة، وكان العقال في ذلك الوقت علامة على رفعة المقام والتمدن، فلم يكن العامة يلبسونه وبخاصة في القرى، وتحدث إلينا حديثا طليا شهيا في مادة «التعبير» وشرق بنا وغرب في الروايات والقصص، وأساليب الكتابة، فوجدت من نفسي الميالة إلى هذا اللون من الأحاديث شغفا بما يقول، وطلب منا كتابة موضوع إنشائي ففعلت وكافأني بمجموعة مصطفى المنفلوطي كاملة، فالتهمتها واحدة بعد الأخرى ؛ مقالاتها وقصصها! وأخذ بيدي إلى حفلات المعهد وكان مسؤولا عن النشاط الثقافي فأوكل إلي تقديم الحفلات والمناسبات، وفي الثانوية بدأت أكتب شعرا أو أجرب كتابته فقلدت شوقي في قصيدته الهمزية المشهورة «ولد الهدى»، وبنيت عليها قصيدة في الترحيب بالملك خالد - رحمه الله - حين عاد من لندن بعد رحلته العلاجية عام 1394هـ، وعرضت قصيدتي عليه فصححها وعدل الزاحف والمخبون منها ثم ألقيتها في حفل الإمارة الذي أقيم عصرا وسط أبناء بلدتي الصغيرة آنذاك، وهكذا استمرت رعايته لي بعد ذلك، وكان من محاسن الصدف أن يسبقني إلى كلية اللغة العربية ليعين فيها معيدا ويواصل دراسته للماجستير ثم الدكتوراه، ويبرز اسمه شاعرا في محافل الجامعة وغيرها، ثم مشاركا في برامج إذاعة القرآن، وفي الاستضافات الإذاعية، وأخذته الصوالين الأدبية في بحرها الزاخر بالأمسيات والندوات فكان خير مقدم ومتحدث، بما جبل عليه من فكاهة وظرف، وما يتمتع به من بلاغة وفصاحة وجمال صوت، وهو إلى كونه شاعرا رقيقا في غزلياته التي لا ينشدها إلا للخاصة هو أيضاً راوية ومؤد ممتاز، وقد أبدع في أمسيات متعددة كان لي حظوة في حضور كثير منها بإلقائه المميز الذي يطرب السامعين ؛ لأنه ينشد بروح الشاعر المرهف، وحس الفنان الموهوب، ثم يروي غير الشعر النكات والقصص والطرائف فيذهب الشطر الأكبر من الليل له لا ينازعه فيه أحد من الحاضرين!
أما وقد أخذ الله وديعته وانتقل إلى رحمة الله تعالى فلا أرى بأسا من أن أدون رأيا في نتاجه الأدبي والعلمي ؛ فلدي فيه رؤية نقدية وهي أن ما كتب وأنتج وأبدع ليس هو أفضل ما لديه، ولم يقدم ما يتوافق مع مواهبه العالية وملكته الإبداعية في الشعر والنثر ؛ فقد أخذته الحياة بمطالبها المادية، ومجاملاتها، ودفعه السعي إلى الارتفاع بمستوى عيشه إلى أن يجامل ويشارك في مناشط مختلفة لم تضف إلى رصيده الأدبي شيئا قدر ما كانت لحظات ماتعة من الأحاديث والمسامرات الأدبية العذبة، ولكن أديبنا الذي نشأ يتيما فقيرا ذاق مرارة الفقر وشظف العيش في صباه يريد أن يخرج من دائرة الضيق إلى سعة العيش ومن ضنك الحاجة إلى رخاء الوفرة ورغد الحياة ؛ ولهذا لم يفرغ إلى الكتابة والبحث والإبداع كما يتمنى، وهي مشكلة غيره ممن تتشابه حيواتهم وهم كثيرون تدفعهم ضرورات الحياة إلى أن يكونوا على غير ما هم، وأن يبدوا على ما لم يجبلوا عليه ؛ فيتكلفون المجاملة، ويتصنعون الموافقة، ويظهرون من أنفسهم ما ليس من طباعهم وما لم يُنشَؤوا عليه!
الدكتور محمد الدبل مجموعة مواهب عالية في شخصية واحدة؛ فهو الشاعر المحدث الخطيب اللغوي البلاغي الكاتب الراوية المنشد ذو الصوت الجميل، المؤنس الفكه القصاص الأنيق الرقيق اللبق ذو العاطفة الجياشة والدمعة القريبة والآهة الساكنة في الوجدان. أسأل الله له الرحمة والمغفرة.
moh.alowain@gmail.commALowein@