لا يمثِّل تجمُّع عشرات الأشخاص في مبنى وزارة العمل واقعة تسترعى الانتباه في حد ذاتها، وإنما الجدير بالانتباه كونها نموذجاً للمواقف الانفعالية المبنية على تصوُّرات خاطئة أو غير واقعيه مغروسة في الذهن مسبقاً. وعندما نمعن النظر في واقعة التجمُّع ومطالبة وزير العمل بالنزول.....

..... إليهم وتهديده بالدعاء عليه إن لم يتراجع عن تنفيذ القرار القاضي بتأنيث محلات بيع المستلزمات النسائية، فكأننا ننظر إلى مشهد متعدِّد الألوان:

اللون الأول: أنهم رجال شبان، ولم يظهروا ما يدل على أنهم يمثلون العنصر النسائي في المجتمع، وهو المعني أصلاً بالقرار. فإن كان هذا يعود لفهمهم أنّ لهم حق الوصاية على المرأة أو أنهم أدرى وأعلم من النساء بما يضرهن وينفعهن، فلا شك أنه فهم بعيد عن الصواب لأنه متخلِّف أشواطاً بعيدة عن واقع المرأة اليوم والمكانة الاجتماعية التي وصلت إليها بالعلم والعمل. بالعلم ها هو ذا عدد الطالبات في مدارس التعليم العام والجامعات يساوى عدد الطلاب الذكور؛ فالتعليم، مفتوح للجنسين. وقد برز في مجتمعنا عالمات باحثات ومتخصصات في التربية والمهن الطبية وداعيات وكاتبات وأديبات - يقل عددهن ولكن لا يقل مستواهن عن الرجال. وبالعمل؟ نعم، فقد رفعهن التعليم إلى أعلى المراتب الوظيفية - وخاصة في التعليم والصحة. وتكفى الإشارة إلى نسبة عدد الموظفات الحكوميات إلى سائر موظفي الحكومة التي تبلغ 33%. فأين مكان الوصاية والدراية مع هذا التطوُّر الذي حدث فعلاً والذي يمثل ضرورة حضارية لبناء مجتمع إسلامي مؤمن وقوي برجاله ونسائه.

اللون الثاني: أنّ المتجمّعين رجال متديّنون - ولله الحمد - ولكنهم متشدِّدون على أساس التشبث برأي واحد لا يقبل المراجعة ولا يقبل بوجود رأي آخر في أمور تتعلّق بدنيا الناس ومعيشتهم. وهذا لا يتطابق مع معنى السلفية بإطلاق ؛ فمن السلف الصالح رجال عرفوا بالتشدُّد وآخرون بالسماحة مثل عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما، وكلهم نهلوا من نفس المنهل العذب. أما استقراء مقتضيات تغيّر السياق الزمني والمكاني فكان نهجاً متبعى حتى في عصر الخلافة الراشدة. ألم يبطل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم، ليس لأنهم لا يستحقونها، بل لأنّ الإسلام قوي وانتصر بحيث لم يَعُد هناك من يتطلّب الأمر تأليف قلوبهم. والخليفة نفسه قال في آخر خلافته (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من فضول الأغنياء فقسّمتها على الفقراء) - أي علاوة على الزكاة التي هي أصلاً ركن من أركان الإسلام؛ ذلك أنه في عصره - بسبب اتساع رقعة الإسلام وغنائم الفتوحات واتساع نطاق التجارة - بلغ نمو طبقة الأغنياء درجة أبرزت ووسّعت الشقة مع فقراء الناس وأبانت فقرهم، على عكس ما كان عليه الحال في زمن الرسول عليه السلام وأبي بكر رضي الله عنه، حينما كان الأغنياء يعدّون على الأصابع ومعظم الناس متساوون في شظف العيش. ومما هو منسوب للإمام علي بن أبى طالب كرم الله وجهه قوله: (لا تعلّموا أولادكم طبائعكم فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم). إنّ فهم نوازل العصر وضرورات الواقع يتطلّب الغوص في معاني النصوص ومقاصدها لاستخراج كل المعاني التي يحتملها النص وفقاً للسياقات الزمانية والمكانية بدلاً من التوقُّف عند مفهوم واحد لمعنى النص ؛ وعندما ينتج عن هذا الإمعان العقلاني أكثر من مفهوم، فإنها يجب أن تتعايش، لا أن يفرض مفهوم واحد يرى فيه الناس ما يتعارض مع مصالحهم المعاشية، فيلجأ البعض إلى حيل أو مسالك جانبيه لا توافق هذا المفهوم وقد تصطدم به. إنّ التعامل الناضج الفاهم مع متغيّرات الزمن وتطوّرات العصر لا يعنى بأية حال تقمُّص ما تفعله شعوب الحضارات الأخرى، بل يعنى تفهُّم حاجات المجتمع المحلي وضروراته في ضوء تلك المتغيّرات.

اللون الثالث: أنّ الحجة التي يتشبّث بها المتجمّعون تقوم على الخوف من خطر الاختلاط الذي يحتمل أن يؤدى إلى فعل المحرّم، ومن ثم فإنّ منع العمل في محلات بيع المستلزمات النسائية هو من باب سدّ الذريعة. هذه الحجة هي أشبه ما تكون بإلباس طفل صغير عمره سنتان جلباباً واسعاً مفصّلاً لرجل فارع الطول عريض المنكبين. فالخوف نوعان: خوف طبيعي من خطر قائم، وخوف نفسي من خطر بعيد الاحتمال أو غير موجود. فالخوف من خطر الاختلاط في بيئة عمل مفتوحة يرتادها مع الرجال نساء وعوائل للتسوُّق لا يمكن أن يكون خوفاً طبيعياً، بل هو خوف نفسي (phobia). وتقنية التواصل الاجتماعي الحديثة أكثر انتشاراً وأسهل في الاستغلال من اختلاط محدود على مرأى ومسمع من الناس. ونحن - من إرثنا الثقافي كما ذكرت في مقال سابق (الجزيرة في 14-11-1433) - نحب المبالغة في أشياء كثيرة من بينها تصوير خطر الاختلاط. ومن ناحية ثانيه فإنّ التوسع اللامحدود في استخدام سدِّ الذريعة هو أيضاً نوع من المبالغة التي تصل إلى حد الغلو، حين لا نميّز بين الاختلاط الذي يغوى مباشرة بفعل المحرّم مثل حفلات الرقص في أعياد رأس السنة في بعض بلاد العالم وما شابه ذلك، فهي لهذا السبب حرام في حد ذاتها، وبين الاختلاط الذي لا يقصد لذاته بل لأداء عمل مهم ويفصل بينه وبين شبهة الفعل المحرّم سلسلة من الحواجز الأخلاقية والدينية والاجتماعية والنظامية، مثل الاختلاط في الأسواق والمطارات وبيئات العمل المفتوحة كالمستشفيات ومحلات البيع ... الخ. ولا شك أنّ أسوأ استخدام لمبدأ سدّ الذريعة هو الحكم على النوايا، فهو انعكاس لإساءة الظن والكراهية والنظر إلى البشر كأنهم أبالسة. والأنفع من ذلك كله والأقرب للدين والعقيدة، هو حسن الظن ومراعاة الضرورة والحاجة، وأنّ هناك تنظيمات وتقنيات تؤدي مهمات المراقبة وتبعث على الطمأنينة.

اللون الرابع: استخدام ذخيرة الإرهاب النفسي من خلال التهديد بالدعاء على الوزير إن لم يوقف تنفيذ القرار، والاستشهاد على ذلك بما ادّعاه أحدهم باستجابة الله لدعاء أحد المتطرّفين على الوزير السابق د. غازي القصيبي بأن يصاب بالسرطان. إنّ في هذا تطاول على رب العباد - جلّ وعلا. فهذا المرض الذي أصاب د. غازي أصاب غيره من علماء الدين الأفاضل ممن كانوا في مثل عمره أو أقل. فهل دعا أحد على هؤلاء أيضاً؟

اللون الخامس: تجاهل أمر من الأمور التي تفهم بداهة وعايشتها مجتمعاتنا العربية والإسلامية قروناً طويلة، دون أن ينقص شيء من إيمانها وعقيدتها. وهو أنّ المرأة شريكة الرجل في المسؤولية الأسرية وكسب الرزق. فإذا ضاقت سبل العيش برب البيت أو غاب، كان على المرأة أن تسعى إلى الرزق الحلال لتعيش هي وأسرتها بكرامة وطمأنينة. على ماذا؟ هل على الصدقات والمعونات التي لا تكاد تسدّ الرّمق، أو على الكسب الحرام إذا سدّت في وجهها أبواب الكسب الحلال؟ بل على العمل الشريف. فالمعيشة الكريمة في عصرنا الحاضر شاقة ومكلفة. ولو افترضنا أنّ هناك خطراً موجوداً خارج مخيلة المتشدّدين في العمل بمحلات بيع المستلزمات النسائية أو في غيرها كالمستشفيات ونحوها، فإنه لا يقاس أبداً بخطر عيش الفاقة أو الرزق الحرام، فالحرج مرفوع بارتكاب الضرر الأصغر - إن وُجد - لدفع الضرر الأكبر.