يوجد اليوم هوة واسعة لا يمكن ردمها بين العالم المتقدم والعالم النامي في هذا النسق الدولي الرحب، وإن هذه الهوة ستتسع يوماً بعد يوم، وهذا الاتساع له أساب عدة، يأتي في طليعتها أن الدول المتقدمة في جميع مضامير الحياة تملك خطوطاً عريضة، أو دعوني أقول لكم أيها القراء الأعزاء إن هذه الدول تملك خططاً استراتيجية متفقاً عليها عند الجميع مع تباين بسيط في تفاصيل تحقيقها، وهذا عكس ما نلمسه عند بعض الدول النامية التي لا تملك خطوطاً عريضة ولا خططاً استراتيجية، وقصارى ما تملكه هذه الدول في تنميتها المختلفة هو عبارة عن تفاصيل هزيلة. إن العمل على الخطط التكتيكية دون إيجاد خطة استراتيجية تقود الخطة التكتيكية في هذه الدول فكأنها بهذا النهج تضع العربة أمام الحصان، وهذا بالضبط ما عليه بعض الدول النامية اليوم. إن سبب تخلف هذه الدول عن الركب الحضاري والحراك التنموي المادي هو أنها عادة لا تملك رؤى واضحة ولا أهدافاً مسبقة لقيام نهضتها وتقدمها، وقصارى ما تملكه هذه الدول هو تفاصيل هزيلة مربكة لخططها التنموية. إن غياب الخطط الاستراتيجية يجعل هذه الدول لا تملك بداية تنطلق منها، وهذا سلوك عقيم؛ فالذي لا يملك أفقاً رحبة لا يستطيع السير؛ فالذي يرى تحت قدميه فقط لا يستطيع أن ينطلق إلى الأمام بثقة؛ فصاحب النظرة القصيرة لا يرى إلا عقبات قليلة، بعكس ذلك الذي ينظر مصوباً نظره إلى الأفق البعيد، فإنه حينها ينظر لجميع العقبات التي تعترضه؛ ومن ثم يستطيع تداركها جميعاً، ولا يفاجئه أي عقبة لم يتخذ لها حساباً. إن كثيراً من الدول النامية لم تحقق بعد أي نهضة تنموية شاملة تُشهد! وإذا أردنا أن نتلمس الأسباب وراء ذلك لرأينا السبب واضحاً كالشمس في رابعة النهار، وهو أنها لا تملك رؤى واضحة لما سوف تعمله في الغد، بينما العالم المتقدم الذي حقق نجاحات حضارية غير مسبوقة يملك تراكماً معرفياً مستمراً وخططاً متفقاً عليها.
ما أريد أن أخلص إليه هو أن الدول التي علا كعبها في هذا النسق الدولي الرحب حققت تنمية حضارية بسبب أن ما يقدمه السابق يصادق عليه اللاحق متى ما كان صائباً، ومن ثم فاللاحق يضفي إلى تلك الخطط زيادة وتكميلاً، أو بمعنى أصح يضيف إلى تلك الخطط حذفاً وزيادة, زيادة صائبة وحذفاً قد بانت معالم أخطائه. وما نشهده اليوم لم يكن قفزة سريعة ولا طفرة في الحضارة بل إن تقدمها بسبب أنها تملك تراكماً حضارياً. فمثلاً التقدم في ميدان الاتصالات الذي أبهر العالم اليوم كان له بالأمس بدايات بسيطة، ولكن التراكم الحضاري ورعايته جعلاه يصل إلى ما وصل إليه اليوم، وعلى ذلك قيسوا جميع الناتج الحضاري.
فيما الدول النامية تقف اليوم مرتبكة وفي ذهول أمام التقدم الذي أحرزته الدول المتقدمة؛ فتولد الإحباط والنكوص، واتسعت الهوة بينها وبين تلك الدول المتقدمة. ولكن لو أن الدول النامية نما إلى علمها أن ما في يد العالم من ناتج حضاري مبهر ما هو إلا ما كان بالأمس بدايات متواضعة، صاحبها تطوير إثر تطوير، كما ضربتُ لكم آنفاً مثالاً على ذلك, لتغير حالها.
وإذا أردنا أن نمسك الحضارة والتقدم العلمي بقرنيه فلا بد لنا - نحن العالم النامي - أن نحذو حذو الدول المتقدمة في رعايتها لبدايات نهضتها، وأن يكمل اللاحق ما عمله السابق من أشياء سليمة ويباركها، وينسى السلبيات السابقة.