لو قارنا بداية مطالب بلدان «الربيع العربي» مع الآن، وهما سنتان فقط، سنجدها تبدو من عالم آخر، من زمن سحيق.. ذروة شعار الثورة هما الحرية والمساواة تبدوان مفردتان بائستان مع حركات انتصرت وليس في مخيلتها لا الحرية ولا المساواة، فضلاً عن أن تكون في أجندتها..
كان الأحرار المحتجون مفعمين بنشوة المغامرة ولذة الاحتجاج وتحطيم القيود.. واثقين من عدالة مطالبهم ومن عدم مشروعية الطغيان.. صاروا الآن أشد خوفاً على الحرية والمساواة من ذي قبل.. عادت حرية التعبير بقيود أكثر وسقف أدنى، وجاء طغاة جدد لهم شعبية! كُنَّا بتشهير التخوين صرنا بتشهير التكفير، وقاموس الأمر والنهي والتمييز الطائفي.. وعاد الاضطهاد أشد وطأة.. ولم يعد الشعب مصدر السلطات، بل قانون الجماعة الفلانية وإيديولوجيا الجماعة العلانية.. أما مساواة جميع المواطنين نساء ورجالا أمام القانون فهي تقال ثم تردف باستثناءات تجعل مبدأ المساواة أضحوكة باكية! فكيف وصل الربيع إلى هذه الحال؟
بدأ الربيع تقدمياً صفق له العالم أجمع.. شباب وشابات يحتجون بنبل.. ويعتصمون بسلمية، ينصبون الخيام في الساحات، يشربون الشاي والقهوة، يتبادلون الطعام المتواضع.. يصلون خاشعين لله، ثم يرفعون رؤوسهم وقبضاتهم باعتداد حاملين لافتات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.. يطالبون بالعمل وتكافؤ الفرص.. فأي مشهد يسرق الأبصار ويأسر الألباب؟ تفوقت الحركات الشبابية بكل اقتدار في البداية بإبداع ثورة رومانسية بلا تيار بلا إيديولوجيا بلا حزب بلا قيادة، بل قادها الشارع كيفما اتفق.. ثورة فوضوية بلا رأس وربما بلا عقل، لكنها كانت نقية فاتنة الروعة.. وقع في غرامها مثقفون كثر.. حركة شارع تلقائية عفوية سريعة تخطف الأنفاس، لم تستطع الحكومات اللحاق بها أو التعامل معها فانهارت أمامها ومعها مؤسسات عديدة للمجتمع المدني..
إنما المحتجون فهموا أن النجاح الأولي والإعجاب المحلي والعالمي هو شهادة مطلقة على استمرار الاحتجاج لذاته أو لنتيجته المباشرة وليس لنتائجه المتتالية والتي لم تنته بعد.. فهم المحتجون أن الاحتجاج هو الرسالة على غرار ما كان ينشده كورس المعتصمين في حركة احتلوا وول ستريت: «بحدّ ذاتها الآلية هي الرسالة».. وهنا كانت طريقة الاحتجاج هي الرسالة، وليس مضمونه!
لم يخطط المحتجون لما بعد الفوضى، فكان الفراغ.. تناسوا في غمرة الافتتان النضالي أن سقوط مؤسسات الدولة يعني فراغاً سيملؤه من قد لا تعنيه أهداف الثورة، بل أجندة مخفية عبر تقية مخطط لها سلفاً، استحوذت على مؤسسات الدولة. قيل إنهم خطفوا الثورة، لكنه كان طبيعيا، فالطبيعة تكره الفراغ! فقد كان الحركيون الإسلاميون يرتبون أوضاعهم ويبنون المؤسسات ويملئون الفراغ، ربما بفراغ آخر!
حركات الإسلام السياسي والأحزاب الوطنية الليبرالية واليسارية لحقت بمن بدأ الثورة وهي الحركات الشبابية المدنية.. وإذا كانت جميعها شاركت في الثورة، فإن الأولى استحقت ما نالته انتخابياً مستولية على مؤسسات الدولة والمجتمع فيما الآخرون يفكون خيامهم ويلملمون قراطيسهم دون استحقاقات تذكر.. وكان المثقفون الليبراليون واليساريون يجمعون أكبر الخيبات في منشورات تكاد تكون سرية من شدة ما هي طلسمية للجمهور! كان المثقفون يخاطبون العقول الجديدة، وكان حركيو الجماعات الإسلامية يخاطبون العواطف القديمة.. فيما كان الشباب مدلهما بالعنفوان وشغف التحدي..
لا أحد يلوم من يخاطب العواطف زمن الثورة.. فالثورة بلا عاطفة جياشة محض تنظير! لكن ماذا عن عنفوان الشباب المحتج؟ لقد أنهك المحتجون باعتصاماتهم ونضالاتهم التي لم تمتد من الشارع إلى مؤسسات الدولة. وإذا كانت الحكومات سقطت في فخ هذه الفوضى فإن المفارقة أن الاحتجاجات الشبابية هي بدورها وقعت في ذات الفخ الذي نصبته.. ولعلها ليست مفارقة بل خطأ فادح التكلفة حين استمر الاحتجاج دون برامج عمل.. دون مقاربة مع الجمهور البعيد عن ساحات الاحتجاج.. فالاحتجاج كان مغرياً لمجرد متعة تفكيك مؤسسات الدولة القمعية.. وهذا بحد ذاته متعة جديرة بالمغامرة وتستحق التأييد، لكن هذا التفكيك لم يتبلور عنه مؤسسات تقارب طموح المنتشين بالثورة، ولم تتحول إلى مشاريع تسد رمق الجماهير الجائعة..
ها قد عاد المحتجون إلى بيوتهم في بلدان الربيع العربي عدا بضعة مغامرين أدمنوا الاحتجاج. لقد عادوا وقالوا كلاما كثيراً عن رحلة النضال، وما قالوا شيئا عما بعد الرحلة وتركوا حيرة الأسئلة: هل انتهت لذة الاحتجاج؟ ماذا بقي الآن من الثورة؟ وهل أتت بجديد؟ لقد أتت بأقدم من السابق بفضل جهد وانضباط حركات استفادت من طرق التنظيم الحديثة لكنها بقيت بعقول تنتمي للعهود القديمة.. إنما ماذا يهم إذا كانت تمتلك المنابر والحناجر.. ماذا يهم إذا كانت أقرب للجمهور من كافة المنتديات الديمقراطية؟ لا غضاضة في ذلك، إنه استحقاقها، ومن جدَّ وجد!
يقول مثقفون حذرناكم من التأجيج العاطفي والخطابية الشعبوية، فالفوضى الاحتجاجية ستفضي إلى طريق مسدود، وسيخطفها المتشددون. لكن حركات الاحتجاج أحسنت صنعاً حين نجحت في ربط الحقوق مع الجماهير لتتحول إلى وعي جمعي جديد يؤسس حالة انتقالية للبلدان العربية إلى زمن جديد. الإيجابي أنها أسست بيئة لبناء جديد، والسلبي أنها لم تؤسس بنية تحتية فتلك مهمة تقوم بها الآن جماعات مؤدلجة بطوباوية تعيد بناء الدولة الوطنية الحديثة وفق هندسة القرون الوسطى.. وتقود الناس بالسلاسل إلى أحلامها الموعودة..
ويقول مثقفون آخرون لا تبتئسوا فالمسرحية ما تزال في فصلها الأول. ألم يقل الدكتور عبد الله الفوزان الأسبوع الماضي: «إني مقتنع أن فكر الإخوان ونهجهم ومشروعهم ومعهم التيارات الدينية الأخرى التي تسيّدت الشارع السياسي العربي الآن من الصعب أن ينجح ويستمر طويلاً في تسيّد المشهد السياسي، وأن مصر بالذات بإرثها الثقافي والفني والحضاري الكبير أكبر من أن يحكمها الإخوان لفترة طويلة..»
وتقول الكلاسيكيات السياسية لا بد للثورة كي تنجح من إنتاج مؤسساتها البديلة التي يجب أن تكون أفضل من سابقتها، فهذا هو المبرر للثمن الباهظ لضحايا الثورة. وإذا كانت الثورة تأكل أبناءها، كما قيل بعد الثورة الفرنسية؛ فإن أحد أبنائها، وهو نابليون، قال: الثورة لا يمكن أن تُصنع أو تمنع. الشيء الوحيد الذي يمكن عمله هو أن يعطيها أحد أبنائها اتجاهاً بفضل انتصاراته.»
عما قريب سيجيب الشارع العربي على تلك الأقاويل..
alhebib@yahoo.com