استلفتت انتباهي إكباراً وإعجاباً.. تلك الدفوعات الهادئة الموضوعية.. والنظامية الدقيقة، التي واجه بها وزير العمل المهندس عادل محمد فقيه.. جموع المحتسبين الذين توافدوا إلى مكتبه.. بترتيب مسبق فيما بينهم.. وعلى غير علم من جانبه -
حتى بلغوا المائتي محتسب صباح يوم الثلاثاء - الثاني عشر من شهر صفر/ الخامس والعشرين من شهر ديسمبر الماضي.. لـ(إقناعه بمنع النساء من العمل في عدد من القطاعات)، وإبلاغه بـ(مخالفته أعلى سلطة تشريعية في المملكة: وهي هيئة كبار العلماء) كما قالوا.. وإفهامه بأن (السماح بعمل المرأة في محلات المستلزمات النسائية فساد وفسق).. وقد توعده بعضهم بـ(الدعاء عليه في الحرم بأن يصيبه مرض السرطان) في حالة عدم الرجوع عن قراره خلال شهر!!
ولست أدري بداية.. كيف اقتنع هؤلاء المحتسبون بأن بيع النساء للنساء (فساد وفسق) حتى يطالبوا بـ(منعه)، وتهديد مَن يجيزه أو يسمح به بالدعاء عليه بـ(السرطان)..!؟ فهل بيع الذكور لـ(الإناث) مستلزماتهم النسائية (صلاح وتقوى)..!! لقد تجاوز (الوزير).. عن هذه - فيما أحسب - حتى لا يصدم كبرياءهم أو يعري اعتزازهم بما اعتقدوه.. لينفذ إلى صلب دفوعاته - بادئاً بتلك اللغة التي يحبونها - باعترافه بوجود أخطاء وملاحظات على (الإجراءات التي اتخذتها وزارته حول آلية توظيف النساء).. وأن الوزارة ستتلافاها خلال الأيام المقبلة، ليمرر بعد ذلك قوله الأبلج بـ(أنه مؤتمن على عمل المرأة وفق ضوابط معينة.. لتحقيق فرص العيش للمواطنين والمواطنات على حد سواء)، وهو حق - ومطلب - لا جدال فيهما... عندما نتذكر نسبة الأنوثة للذكورة بين المواطنين.. من جانب، وعندما نتذكر.. كم هي أعداد الأسر التي تقوم حياتها على (مرتبات) بناتهن من المدرسات والطبيبات والممرضات والإداريات وغيرهن من النساء العاملات.. من الجانب الآخر، وهو ما يجعلنا نحمد له إحساسه بمسؤوليته - وإحساس وزارته بمسؤوليتها - نحو هذا (الائتمان).. لا أن نعارضه أو نضع العراقيل بظنوننا السيئة المفترضة أمامه.. فضلاً عن تهديده بالدعاء عليه إن لم يتراجع، لينطلق (الوزير) في بقية دفوعاته.. أمام اتهامه بأن الوزارة (لم تطبق الأوامر السامية) - وقد أراد المحتسبون بذلك.. وضع إسفين بين الوزير والمقام السامي - قائلاً: (إن هذا فهم خاطئ وناقص، فمن لم يقتنع بما نقوله ونوضحه من خلال عملنا.. فعليه أن يسلك الطريق الصحيح ويحاججنا أمام القضاء، ويرفع دعوى علينا في ديوان المظالم.. فالقضاء هو الجهة التي تحكم بين الناس إذا اختلفوا).. بل وأضاف (هناك القضاء الإداري، وهو مَن يصدر القرارات ضد الوزارات، وضد الإدارات الحكومية.. وهذا هو المسلك الحضاري، ومن حق الوزارة - في هذه الحالة - أن تستأنف وتستخدم كل أدواتها النظامية، وهناك قضاة يحكمون بشرع الله، فإذا حكموا وقالوا: إن وزارة العمل على خطأ فسنقول: سمعاً وطاعة، وسننفذ أمر القضاء.. لكن لا يحق لإنسان مهما كان صلاحه واحتسابه، أن يتجاوز احتسابه تقديم النصيحة.. لأنه لا يمكن إلغاء قرار إلا بحكم الجهة التي أولى لها نظام الحكم في هذه البلاد إصدار الأحكام الشرعية)، ليُطمئِن بعد ذلك جموع المحتسبين قائلاً: (بدأت الوزارة بتعيين مشرفات متفرغات للعمل فيلمراكز التجارية للإشراف الكامل على متابعة تأنيث المحلات، وخصصت هاتفاً مجانياً وبريداً إليكترونياً لتلقي أية شكاوى عن ممارسات خاطئة ليتم التعاون معها وعمل اللازم حيالها)، ولم يكتف (الوزير) بذلك.. بل لخص في نهاية حواره الطويل المرهق الذي امتد لأكثر من ساعة مع المحتسبين والذي ظهر بأنه (الثاني) بعد عشرة أيام من الأول (محاور اختلافه معهم).. بأنها تقع في (ثلاثة) محاور: (الأول.. هو اعتراض هؤلاء المواطنين على عمل المرأة بشكل كامل في قطاع التجزئة، وهو ما أحاله (الوزير) إلى القضاء الشرعي ليقول حكمه النهائي فيه. و(الثاني).. هو في (وجود عديد من المخالفات بتوظيف المرأة)، وهو ما احتواه ببراعة (اقتسامها) معهم.. عندما قال (نحن متألمون ومنزعجون من هذه المخالفات، ولكن البشر معرضون للأخطاء).. وهو يلتمس (تكاتفهم لوقف الأخطاء.. وتصويبها التصويب الأمثل)!! أما المحور (الثالث).. فهو اتهامهم لـ(نيته) وصلاحها - أو فسادها - بـ(تغريب المرأة) ليجري على لسانه من مخزون تربيته (المكية) بجوار الحرم أجمل تعقيب على هذا الاتهام: بأن (النيات لا يعلمها إلا الله).. لينفض الحوار، ويكسب الوزير جولته، وتفوز المرأة بموقعها الجديد (بائعة للنساء) وسط مجتمع أكثر من نصفه من النساء.. ويذهب كل إلى سبيله.
لقد فات هؤلاء الإخوة الأفاضل.. أن يتذكروا ويسترجعوا ما حدث عند افتتاح مدارس (تعليم البنات) في منتصف ستينيات القرن الماضي في منطقة قلب الجزيرة، وقد أراد الملك فيصل آنذاك (ترسيم) تعليم البنات، وجعله ضمن مسؤوليات الدولة تجاه بنات الوطن في كل أنحائه.. بعد أن كان تعليماً (خاصاً) في بعض مدن الحجاز والساحل الشرقي، وكيف احتسب المحتسبون آنذاك في رفض إقامة تلك المدارس.. إلى أن فُرضت بقوة (الدولة)، وقال لهم الملك فيصل: من يرد فليلحق ابنته بـ(المدرسة)، ومَن لم يرد.. فلن نكرهه، ليتسابق الجميع بعد ذلك في إلحاق بناتهن بتلك المدارس التي مانعوا في إقامتها، بل وليتسابقوا بعد سنوات.. في إلحاقهن بـ(كليات التربية) وفي أصعب أقسامها كـ(العلوم والفيزياء والرياضيات واللغة الإنجليزية) حتى يضمنوا لهن الأولوية في التعيين كـ(مدرسات) ومشرفات ومديرات.. يتقاضين أفضل المرتبات (!!) إني أكاد أرى بأم عيني - كما يقول النحاة - بأن رافضي (اليوم)، سيكونون هم المتسابقون (غداً).. على هذه الأعمال لـ(بناتهن)، والتي لن تقف - فيما أظن - عند المستلزمات من الملابس النسائية الخارجية والداخلية وحدها.. بل ستتعداها إلى المجوهرات والحلي الذهبية والأحذية والجوارب والقفازات اليدوية والحقائب الجلدية.. وما شابه ذلك من كل ما تحتاجه المرأة لحياتها.
* * *
هناك حكمة تقول: (لا تدع الشجرة.. تحجب عنك الغابة)!!.. وهو ما أعتقد أن المحتسبين ومَن سايرهم قد وقعوا في شباكها، إلا أنهم نسوا.. أن (غابتنا) اليوم لم تعد تلك الصحراء الشاسعة الواسعة المحرقة المرهقة.. ببدوها الرحل الباحثين عن الكلأ والماء.. وخيامها القليلة، وإبلها المتناثرة.. ومجتمعاتها الحضرية التي تعيش على زراعة النخيل وتربية مواشيها.. وقد تسنم ولايتها (الرجل) وحده.. القادر على مواجهة وتحمل كل تلك الصعاب، فقد مضت تلك العهود وانطوت، وأصبحت (الغابة) مدناً وقرى تضم الملايين من الجنسين.. وطرقاً ومركبات وسفناً وسككاً حديدية ومطارات وموانئ ومدارس وجامعات ومستشفيات وعيادات ومختبرات ومراكز تجارية ومعامل ومصانع لتكرير النفط وتسييل الغاز ومحطات لتوليد الكهرباء وأخرى لتحلية مياه البحر.. و.. وكل مفردات غابتنا الجديدة هذه التي نعيش فيها اليوم تحتاج إلى من يديرها ويدورها.. تحتاج إلى عقول ومعارف وسواعد الرجال والنساء.. الفتية والفتيات معاً، فلكل موقعه، ولكل رقعته في ترتيب دوران (عجلة) غابتنا، وعلى علمائنا وعقلائنا وفقهائنا أن يبحثوا لنا عن (فقه) مواءمة: بين الخالص من شريعتنا ومقتضيات حياتنا اليوم.
* * *
لقد كان عجيباً ذلك (الثلاثاء).. فمع (سونامي) معارضة تشغيل (المرأة) بائعة للنساء الذي هب على مكتب وزير العمل صباحاً في (الرياض).. كان هناك (سونامي) من نوع آخر، يهب على كبرى قاعات المحاضرات في (نادي جدة الثقافي).. لـ(إخراج) السيدات الحاضرات من عضوات مجلس الإدارة والجمعية العمومية وغيرهن.. من الموقع الجانبي المخصص لهن لحضور ندوات وأمسيات ومحاضرات (النادي)، وقد جئن في ذلك المساء للاستماع والمشاركة في (ندوة: النخب السعودية وقضايا التغريب)، التي كان من المقرر أن يتحدث فيها كل من الدكتور محمد السعيدي والدكتور محمد آل زلفة - الذي اعتذر في آخر لحظة - لظرف اضطراري، أراحه دون شك من ذلك الجدل المحرج والعقيم: بين (بقاء) الحاضرات أو (إخراجهن) من القاعة.. بناء على رغبة عدد من المحتسبين، والذي تصاعد طوال الأربعين دقيقة الأولى من عمر (الندوة).. إلى أن حسمته الحاضرات بشجاعة وجرأة بـ(رفضهن) مغادرة القاعة، ودعَّمه رئيس النادي الدكتور عبدالله السلمي.. عندما قال بأنه لا يملك (الحق) في إخراجهن من “القاعة”، وأن الذي يملك ذلك هي (وزارة الثقافة والإعلام)، التي أذنت للسيدات بـ(الترشح) لعضوية مجلس الإدارة، والدخول في أول انتخابات - يجريها (النادي) - لمجلس إدارته، وأن الجميع - رجالاً ونساءً - مرحب بهم في النادي.. إلا أن المحتسبين أخلوا أماكنهم في الصفوف الأولى، وغادروا (القاعة).. ليلقي الدكتور السعيدي ورقته.. ويتداخل معها مَن تداخل من الحاضرين والحاضرات، وتمضي إرادة الحياة.
* * *
لكن (المَشْهدين) اللذين جاءت بهما المصادفة وحدها، في كل من الرياض وجدة وفي يوم واحد.. كانا وكأنهما مؤشران لـ(تنبيهنا) بأننا مازلنا في مربع عدائنا الأول لـ(المرأة)، الذي علينا أن نغادره.. إذا أردنا أن نلحق بأمم الأرض وشعوبها، فكتابنا الكريم يقول يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ... .. ورسولنا العظيم (صلى الله عليه وسلم) يقول: (خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء).. أو كما قال، وهو يقصد بذلك أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
إضافة بـ ] الهاتف:
كم كانت مصادفة عظيمة.. أن يصدر قبل ساعات من دوران المطبعة بـ(المقال) في نصه الأساسي.. قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله- باعتماد تعيين عشرين بالمئة من عدد أعضاء مجلس الشورى من (السيدات) بدءًَا من دورة المجلس القادمة، وهو ما يدعم توجه الدولة نحو المستقبل بكل آماله المرجوة، وهو ما يدعوني إلى تهنئتهن.. وتهنئة الوطن بكله بهذه النقلة الحضارية الكبرى في تاريخه .]
dar.almarsaa@hotmail.comجدة