أول من اقتصر على جعل الإستاطيقا اصطلاحاً على الأفكار المتولِّدة من إدراك المشاعر الغامضة باومجارتن عام 1735م.. قال الدكتور عزالدين إسماعيل في كتابه الطُّلْعة “الأسس الجمالية في النقد العربي”/ دار الفكر العربي/ الطبعة الثانية عام 1968م طبع دار النصر بالقاهرة/ ص15-16 عن معنى دراسة المدركات الحسية:
“هذا المعنى الحرفي هو الذي كان في رأس باومجارتن عندما عرَّف علم الإستطيقا بأنه علم المعرفة الحسية، ونظرية الفنون الجميلة، وعلم المعرفة البسيطة، وفن التفكير على نحو جميل، وفن التفكير الاستدلالي؛ فهناك إدراك حسي وتفكير صِرْف، وذلك الإدراك الحسي عند باومجارتن فيه كثير من الغموض.. على حين أن التفكير الصرف واضح كل الوضوح، وسبب هذا الغموض هو أن الجميل يكون في الأجزاء الغامضة من الوعي بالبسيط؛ وبذلك أصبح هناك نوعان من المعرفة : معرفة حسية غامضة (إستطيقا)، ومعرفة عقلية واضحة (منطق).. وتختلف الحقيقة المنطقية عن الإستطيقا: في أن الحقيقة الميتافيزيقية أو الموضوعية تتمثل حيناً في العقل عندما تكون حقيقة منطقية بالمعنى الضيق، وحيناً فيما يشبه العقل وملكات الإدراك البسيطة عندما تكون إستطيقا”.. وقال ص17: “ونلاحظ أن تعريف باومجارتن للإستطيقا من حيث إنها علم الإدراك الحسي قد تحور مع الزمن - وإن كان تحوراً طفيفاً -؛ فكروتشه يُعرِّفه بأنه الحدس المباشر أو الوجدان، وكيرت جون ديكاس يعرِّفه بأنه كل ما له صلة بالمشاعر الحاصلة خلال التأمل، وسوريو - في سبيل تأسيس إستطيقا علمية - يعرِّفه بأنه العلم الذي يضع تحت أجناس كلية المعارفَ الخاصة المتضمَّنة في النشاط الفني، وعند ديوت هـ. باركر أن الغرض من الإستطيقا أو فلسفة الفن هو كشف الخصائص النوعية للفن الجميل، وتجديد العلاقة بين الفن والمظاهر الحضارية الأخرى كالعلم والصناعة والأخلاق والفلسفة والدين.. والإستطيقا بهذا الفهم تتميز تميزاً تاماً عن الدراسة التاريخية للفن.. تلك التي لا تهتم بجوهر الفن ، بل بتتابع المدارس والأساليب ونموها”. وقال ص20-21 عن تطور المصطلح عند “ كانْطْ”: “الإستطيقي ليس هو الجميل والعكس كذلك صحيح، بل إن الجمالَ ذاته [يعني نفسه] أصبح ميداناً للإستطيقا.. فاختلفت عنه كما يختلف علم الأخلاق عن السلوك الإنساني سواء بسواء.. وقلنا: إنَّ “كانْطْ” قد أخذ بالمعنى اللغوي الحرفي لكلمة إستطيقا شأنه في ذلك شأن باومجارتن، ويتضح ذلك في كتابه ( بحث العقل الخالص ) سنة 1781م؛ فإنه يستعمل اللفظ للدلالة على علم المعرفة الحسية، ولكنه كان يعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك علم للجمال بالمعنى الدقيق؛ وتبعاً لذلك نجده يُعطي اللفظ محتوىً جديداً؛ فيدل على علم المبادئ أو الصور القبلية للإدراك (وتستطيع أن تستبدل به الزمان والمكان).. وحين يرتبط هذا الفهم للإتطيقا بالبحث العملي نجد منهجاً آخر هو المنهج البَعْدي؛ فإذا كان المنهج القَبْلي يحدد بالاستدلالات العقلية المجردة قوانينَ الجمال التي يجب أن يتفق عليها كل الفنانين، فإن المنهج الآخر - البعدي - يحاول وضع القواعد العملية في دراسة الأعمال الفنية القائمة التي تُـمْتع بجمالها”.
قال أبو عبدالرحمن: هذا تَمَزُّقٌ في الاصطلاح واللغة معاً؛ لأنه يزاحم ويُشوِّش ويخلط بين اصطلاحات مُسْتَقِرَّة وبين مشاعر تحتاج إلى التمييز بمصطلح مُسْتَقِلٍّ ليس فيه تشويش، وأقدم تعريف للكلمة عند الإغريق أنها (دراسة المدركات الحسية الباطنية) التي هي المشاعر؛ ولهذا فسَّروها بأنها علم وِجداني.. ولا ريب أن مدارك العقل بالتفكير والتأمل وسائر قواه معلومة في المنطق ونظريات المعرفة؛ فتناوُلُ ذلك بمصطلح الإستاطيقا فضول ولَبْس.. كما أن الأخلاق معلومة الفروع، ولها فلسفتها النفعية العاجلة والإيثارية الآجلة؛ فتناوُلُها بمصطلح الاستاطيقا تراكم وفضول؛ وإنما نحتاج إلى مصطلح يُفَسِّر لنا لذَّة المعرفة والعلم؛ وذلك هو (الإستاطيقا) بأول تعريف إغريقي؛ فيشمل المصطلح الجمالَ بإطلاق؛ لأنه لذة وجدانية لا تحصل بتفكير، وإنما التفكير يُفَسِّرها بعد حصولها.. ويدخل في المصطلح دراسة اللذة الحاصلة بممارسة الأخلاق الفاضلة، ودراسة اللذة الحاصلة من فتح وحلِّ معضلاتِ العلوم والأفكار.. وأما لذة المأكولات والمشروبات فداخلة دراستها في العلوم المادية؛ وإنما الاستاطيقا للذةِ المشاعر الباطنية الحاصلة من المعاناة البشرية والتربية الثقافية؛ فهي جُهد بشري.. وأما لذة العسل لحلاوته مثلاً فلا جُهد للبشر في صنع لذَّته كما في الجمال الفني، ولا في إدراكِ لذة جمالية كما في الجمال الطبيعي - وإن تسرَّب من حلاوته مشاعر باطنية -.. ولست أعلم في لغتنا العربية كلمة تفي بدلالة هذا المصطلح إلا بكلام مُركَّب مثل (دراسة المشاعر الباطنية الغامضة التي يحصل بها لذة الإدراك لما هو جميل ، وما هو نافع، وما هو حق )؛ وإذن فاقتراض مصطلح (إستاطيقا) ضرورة تحتاجها لغتنا، وهي دليل على أن أسلافنا لم يخصُّوا هذه الدراسة بحقل علمي وإن وُجِدت ومضات علمية عن لذة العلم والأخلاق لا يتكوَّن منها حقل علمي، ووجدت ومضات تُعبِّر عن الإحساس الجمالي بلغة مجازية لا يتحقق بها فلسفة الإدراك الجمالي كقولهم: تشربه العين، ولذة السمع والبصر، ويقطر حسناً.. إلخ.. وليس لنا أن نقترض هذا المصطلح بما فيه من تراكم ، بل نصطفي منه ما مسَّت إليه الحاجة، وهو المأخوذ من المعنى المطابقِ أقدمَ اصطلاحٍ في العالم؛ فإدخال المعرفة الحسية الظاهرية عند (كانط) تراكم؛ لأن ذلك مُصنَّف في المنطق ثم في نظرية المعرفة؛ وإنما نأخذ لذَّة الإدراك لبعض المظاهر الحسية من منظر طبيعي جميلقوس قزح، وجمال الطبيعة في مشاعر الرومانسيين كروايات (بلزاك)، وهكذا لذة الإدراك لرسم فني.. ومن الفضول والتراكم عند (كانط) عَدُّه المبادئ الأولية للإدراك بإطلاق من الاستاطيقا؛ لأنها عند التجريبيين - وذلك هو الصحيح - بداية الإدراك الحسي عند الطفل قبل حصولِ لذة الإدراك بِرَصْدِ مواصفات ما هو جميل، ورصد مشاعر وجدان المتلقِّي وفْق تدرُّج رُقيِّه في العلم ونظافة السلوك؛ ولهذا أسرف (كانط) في طموحه إلى قوانين للجمال بالحكم التعسفي الحاسم في أمر نسبي؛ وذلك هو قوله: ((قوانين الجمال التي يجب أن يتَّفق عليها كل الفنانين))!!.. على أن (كانط) فيلسوف جافٌّ ليس عنده شيئ من طبع الفنَّان؛ ولهذا كانت لغته عند العارفين بها مُعَقَّدة غير أدبيَّة، وزادَها تعقيداً الترجمةُ الحرفية، وترجمةُ غير المتمكِّن في الفلسفة، ولولا الله ثم سياق الفكر البشري في الزمان والمكان: لاستعصى على مثلي فَهْمُ شيئ من فلسفته .
قال أبو عبدالرحمن: مِمَّن قارب خصوصية الاصطلاح بالإستاطيقا (باومجارتن) الدكتورة أميرة حلمي مطر في كتابها فلسفة الجمال/ دار الثقافة للنشر والتوزيع/ الطبعة الثانية عام 1983م ط م الفنية بالقاهرة ص95-96 حيث تقول: “كان باومجارتن قد عرَّف الإستطيقا بأنها علم مستقل، وأنها منطق المعرفة الحسية الغامضة التي تدور حول الكمال؛ فالكمال إذا أصبح موضوعاً لمعرفة متميزة اتصف بالحق، أما إذا طُبِّق على السلوك فإنه يُعرف بالخير، أما إذا كان موضوعاً لشعورنا وإحساساتنا فإنه يصير جمالاً [الأولى في (أما) الأخيرتين العطف].. وقد استبقى كانط من باومجارتن فكرته عن الجمال باعتباره الكمال حين نحس به.. غير أنه أضاف إليه صفةَ الغائية، إلا أنه في حين ظلت الإستطيقا عند باومجارتن في درجة دنيا من درجات المعرفة بالقياس إلى المنطق الذي يكون موضوعه أكثر قابلية للمعرفة الواضحة: عني كانط بالبحث في الإستطيقا من خلال تحليله للشروط الأولية للحكم بالجميل أو للحكم بالذوق أو للحكم الإستطيقي”.. وتابِـعْ ما بعد هذه الصفحات عن ارتباط الحكم الجمالي بالحكم الأخلاقي، وانظر المعجم الأدبي لجبور عبد النور/ دار العلم للملايين/الطبعة الثانية عام 1984م ص15-16، والإحساس بالجمال لجورج سانتيانا بترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي، ومراجعة الدكتور زكي نجيب محمود/ نشر مكتبة الأنجلو بالقاهرة ص42/ وما بعدها مما يتعلق بالجمال والأخلاق .
قال أبو عبدالرحمن: المراعَى في الاصطلاح صحةُ الدلالة من اللغة، وقد وجدناها عند الإغريق تعني إدراك المشاعر الباطنية.. ثم يُراعَى في الاصطلاح مدى الحاجة حتى لا يحصل التراكم، وقد وجدنا أن دراسة المشاعر الوجدانية الغامضة النسبيَّة غير القارَّة علماً بِكراً يحتاج إلى اصطلاح يدلُّ عليه ، والنص على (الكمال) في مصطلح باومجارتن لفتة صحيحة كريمة إلا أنه جعل الكمال مطلقاً؛ فانصرف هذا إلى علم الأخلاق وحده، وأطلق المعرفة الحسية الغامضة؛ وإنما حاجتنا إلى تحديد الاستاطيقاً اصطلاحاً على مالم يُصطلح عليه من قبل، وهو (دراسة الإدراك الحسي الغامض بشرط ما يُقدر عليه من الكمال)؛ فيختص ذلك بالأخلاق مُبَّرأة من النفعية الفردية العاجلة كما في فلسفة استوارت مل؛ ويختص ذلك بالجمال مُبَرَّأً من المَجانية المحضية.. وليس كل ما نظنُّه مجانياً محضياً يكون كذلك؛ فالفن الجميل المجَرَّد من تربية السلوك (الفن للحياة) هو كذلك محضي من هذه الناحية ، ولكن يرتفع به عن المحضية أن تستمتع به كي تنشط لعملٍ جادٍّ تتطلَّبه الحياة السعيدة؛ فلا يكون محضياً مجانياً بهذه الإرادة، وإنما تكون المحضية في التنقل من لهوٍ إلى لهو إلى أن يدركه النوم؛ فينام، وبعد النوم يعود إلى لهوه ومأكله ومشربه وشهواته؛ فهذا عُمْرٌ خاسر ، وصاحبه كما قال المثل العامي: ((غْنَيْمْ... واعيْ، و... نَيْمْ)، ومكان النقط الثلاث ما يُلْقيه ويطرحه (الحاقِب)، وأوله حرف الزاي، والحرف الثاني ينطقه أخوال بعض أولادي بالألف المهموزة عند إرادة زحزحة شيئ ودَفْعه.. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.