المكوّن الرئيس لثقافتنا المجتمعية هو الدين الإسلامي.. من هنا تهيمن المفاهيم الإسلامية التي شكّلها العلماء الأولون وطلابهم وأتباعهم الذين يحثون الناس على التمسك بها والعمل بموجبها.. كما أنهم يبذلون جهوداً كبيرة لتحقيق «الانكفاء الثقافي» للمجتمع السعودي لحمايته من الغزو الثقافي الوافد خصوصاً الغزو الثقافي الغربي.. ومن ذلك عدم السفر إلا لحاجة.. وتوحيد مصادر التلقي بقصرها على مجموعة من العلماء السعوديين منعاً لانزلاق المجتمع في متاهات المذاهب العقائدية والفقهية والفكرية الخارجية.
لقد كانت مرحلة ما قبل ثورة الاتصالات والانفتاح الإعلامي مرحلة انغلاق ثقافي مقرونة بحصار ووصاية فكرية جعل كل ما يطرح في هذه المرحلة مقنعاً لقاعدة جماهيرية عريضة.. مع منع أي محاولة لاختباره أو محاكمته من داخل المجتمع.. الأمر الذي أدى به إلى أن يجنح نحو التشدد بشكل كبير ووسع قاعدة الثوابت.. وخلط مفهوم الولاء والبراء بمفهوم العزلة الجسدية والفكرية عن العالم الخارجي.. ولكن دوام الحال من المحال؛ فما إن بدأت مرحلة الانفتاح الإعلامي ثم الاقتصادي ثم المعرفي الناشئ عن تزاوج عالمي الاتصالات والمعلومات حتى تحوّلت مرحلة الانكفاء الثقافي إلى مرحلة «انفلات ثقافي» من هول الصدمة التي تلقاها الجميع.
وسبب «الانفلات الثقافي» من وجهة نظري هو الحصيلة المعرفية الهائلة والمتسارعة النمو التي يتلقاها المجتمع نتيجة للانفجار الاتصالي وطفرة استخدام وسائط الإعلام الاجتماعي.. ومشاهدة الفجوة التنموية الهائلة مقارنة بالدول الغربية من نواحي العمل والإنتاج والإتقان والتعامل الإنساني والأخلاقي والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفاعليتها في تحقيق التنمية والعيش الكريم لمواطنيها.. كل ذلك الكم المعرفي الجديد عزَّز التساؤل والبحث والتحليل ومحاولة التشخيص.. وزاد التراكم المعرفي لدى أفراد المجتمع مما جعلهم لا يمررون ما يُقال لهم دون تفكير.
هذه الحالة من التفكير الجديد الناتج عن المرجعيات المعرفية الجديدة تصادمت مع استمرار الكثير من صُنَّاع الرأي على منهجهم وخطابهم السائد.. مما جعل أفراد المجتمع خصوصاً الشباب يتجنبون الخطاب المحلي الذين يرون فيه سبباً لتخلفهم ويتجهون للعالمي الذي بهرهم.. وأخذوا يتبعونه بشكل كبير في المظهر أكثر من المخبر كردة فعل أولية متوقّعة.
الحقيقة العلمية الثابتة هي أن لكل فعل ردة فعل تساويه في المقدار وتعاكسه في الاتجاه.. وبالتالي فإن الانفلات الثقافي ما هو إلا ردة فعل للانكفاء الثقافي الذي ولَّده الانفجار الاتصالي.. وأجزم بأنه قد حان وقت تغيير إستراتيجية التعامل مع المجتمع من قبل النخب المشَكِّلة للثقافة المجتمعية خصوصاً النخب الدينية.. وبات من الضروري أن ينتقلوا من إستراتيجية التحذير والمقاطعة والمنع إلى إستراتيجية التحصين الثقافي المنطقي القائم على احترام عقول أفراد المجتمع وقدراتهم على فهم ثقافتهم الإسلامية.. والتفريق بين الانهزام الثقافي والتثاقف الإيجابي مع المجتمعات الأخرى.