كلما تأملت ما ينتهي إليه مآل المثقف في هذه البلاد، ومن صنعوا أمجادها الثقافية والفنية على مدى يفوق نصف قرن، أشعر بحزن وإحباط، فليس من المعقول أن يذهب روّاد الفنون التشكيلية - على سبيل المثال - إلى غابة النسيان، فمن يتذكّر الفنان محمد السليم يرحمه الله، ومن سيتذكر الفنان عبدالحليم رضوي يرحمه الله، الذي رحل منذ فترة قريبة، ومن سأل عن الفنان عبدالجبار اليحيا، الذي كانت له صولات وجولات في المعارض التشكيلية المقامة في الداخل والخارج، وهو الذي يعيش عزلة حزينة في بيته، بعد أن أصبحت يده المضطربة لا تسعفه في حمل الريشة، فها هي الريشة تترجل من يد الفنان، وها هو يعاني أزمة الإحباط، وهو يفقد آخر ملاذ له، أعني الفن، الذي يعالج من خلاله أزماته، أليس لكل فنان ومبدع أدواته التي تجعله يتصالح مع نفسه ومجتمعه، ومجرد أن يفتقد هذه الأدوات، إما لكبر أو مرض، فإن أزمته تكون مضاعفة، لأنه يصبح سجيناً، في عالم يتحرك!.
لا أعرف لماذا ينعدم الوفاء في مجتمعنا، على كل المستويات، فلا الصحبة تنقذ هذا الفنان وتكون بجواره أثناء عجزه، كما هي تنعم بشهرته وحضوره حينما يكون في قمة مجده، ولا الجهات المختصة بالفنون تتنبه إليه، وتعيد إليه روحه المسلوبة، ولا أعني بذلك أن يسمى باسمه شارع أو قاعة أو ما شابه، رغم قيمة هذا الأمر، لكنني أعني إعادة منتجه الإبداعي إلى الناس، الجهة التي استهدفها الفنان على مدى أثر من نصف قرن.
لماذا تتجاهل هذه الجهات التعريف بهؤلاء الذين صبغوا وجه الوطن بالجمال والمحبة، ما الذي يمنع أن تبادر جهات مثل وزارة الثقافة بطباعة لوحات هؤلاء، في عدة أشكال، بوسترات وبطاقات هدايا وكتب، وكل ما يمكن أن يعيد تقديم هؤلاء الروّاد الكبار إلى الساحة، ويعرف الآخرون بهم، وما الذي يمنع جهات مثل وزارة التربية والتعليم، خاصة وأنها الجهة القادرة على إعادة تشكيل المجتمع، إلى أن تقوم بتنفيذ معارض تشكيلية متنقلة بين المدارس وإدارات التعليم في مختلف المناطق، أن تربي ذائقة التلاميذ على الفنون المختلفة، سواء الفنون التشكيلية أو الفوتوغرافية، أو المسرح، فلماذا خبت جذوة المسرح المدرسي الذي كان في السابق أحد أبرز أوجه النشاط اللا صفي.
أعتقد أن الاهتمام بهؤلاء الذين أثروا حياتنا يوماً، بإبداعاتهم، هو أمر إيجابي لهم، خاصة الأحياء منهم، وهو أمر إيجابي أيضاً لثقافة المجتمع، ولقد دعاني إلى ذلك الموضوع، أنني سألت عدداً من الفتيان والفتيات عن عدة أسماء متنوعة، محمد السليم، عبدالحليم رضوي، عبدالجبار اليحيا، صفية بن زقر، منيرة موصلي، فوزية العبداللطيف، وآخرون.. وأدهشني أنهم لا يعرفون أياً منهم، في مقابل معرفتهم الكاملة بنجوم الغناء والتمثيل والرياضة، والسبب ببساطة أن هؤلاء أمامنا في مختلف القنوات، وهم ملء السمع والبصر، بينما من يصنع الفنون والإبداع الحقيقي الذي تحتفي به الشعوب مغيبون تماماً.
ففي كثير من مدن العالم المتقدمة تجد أكثر من مائتي متحف فني وثقافي في مدينة واحدة، تخلد فيها سير الفنانين والمبدعين ومنجزاتهم، بينما بقي الراحل طارق عبدالحكيم يحاول عشرات السنوات لأن يجد من يهتم بمتحفه الفني في جدة، دون أن ينجح، فمضى، ومضت أحلامه معه، وسيمضي غيره بأحلامهم إلى النسيان!.