ما كنت من هواة جَلْدِ الذات، ولست من الشامتين. غير أن مقاربة الوضع العربي المأزوم، يتقاطع مع الجلد والشماتة. والمقاربة تقتضي النبش في ركام الأخطاء، والتثوير لعفن المقترفات.
والمقاصد وحدها تجليَّ الأهداف، وتحدد الغايات. ولأن ذلك من المضمرات، فالله وحده المحصِّل لما في الصدور، وهو وحده القادر على ابتلاء السرائر.
وحين يحفزنا الاشفاق على إبانة النصح، نجد أنَّ من القانطين من يقول: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ} فيما يكون لسان حال من أَضْوَتْ أجسادهم تردِّياتُ الأحوال، يقول { مَعْذِرَةً إِلَىَ رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ}.
وسكوتُ القادرين عن النصح، والتحذير، وتنبيه الغافلين، شيطنةٌ خرساء. فالأمة حين يطول عليها زمن التيه، تَفْتِقُر إلى من يمارس معها العصف الذهني، والصعق (الكهربائي)، عسى أن تفيق من سباتها، وتستبين النصح، ولو بعد ضحى الغد.
لقد مني العالم العربي بأوضاع، لا يمكن احتمالها، ولا السكوت عليها، والتاريخ الحديث يفيض بالهزائم، ويتلطخ بالمقترفات.
والفوادح ليست في الهزائم، ولكنها في استمرائها، أو في تبريرها. والأفدح من ذلك كله، الدعوى بأنها انتصارات، وإكراه الأمة على قبول تلك الدعاوى الكاذبة، وتحفيز النخب على تدبيج المقالات، وإبداع القصائد، وتأليف الكتب، لتمجيد الهزائم، وتصنيم المنهزمين.
والعقلاء المجربون الناصحون لله، ولرسوله، ولأولي الأمر منهم، الفارون من الفتن فرارهم من الأسد، يودون أن تُسْمع تأوهاتهم، وأن تُؤَوِّبَ العامَّةُ معهم، وأن يثَمَّن تخوُّفهم. فما عادت الأوضاع العربية تحتمل مزيداً من التردَّيات، ولا فائضاً من التدليس، وقلب الحقائق.
والأمة المكلومة بتصرفات أبنائها، ومكائد أعدائها، مرت بثلاث جولات، كل واحدة منها أَشَدُّ بأساً، وأشد تنكيلاً.
تمثلت الجولة الأولى بالاستعمار الغربي الذي استفتحه (نابليون) المغامر العنيد، وكان بالإمكان أن تكون حملته المتعددة الأهداف من فواتح الخير على أمة شرذمتها الفرقة، وخيم عليها الجهل، واستفحلت فيها الخرافة، لو أحسن المستهدفون استثمار ما حمله (نابليون) معه من أجهزة، وما أصطحبه من علماء، ولو أنهم أخذوا من ذلك الشكل الاستعماري ما ضَلَّ عنهم من الحق، كالعلم، والمعرفة، والتقنية، والانضباط، واطَّرحوا ما سوى ذلك من ثقافة وفكر وأسلوب حياة.
وتلك المغامرة (الفرنسية) فتحت شهية القوى الأجنبية. وبلغ الاستعمار ذروته بعد انتصار الحلفاء، في الحرب العالمية الأولى، وخروج (تركيا) من العالم العربي. حيث خلف من بعدها خلف سام العرب سوء العذاب، تمثل بالاستعمارين (البريطاني) و(الفرنسي) وتبعات الاتفاقية السرية عام 1335هـ المعروفة من بعد بـ(اتفاقية سايكس بيكو) والذي جاء من نتائجها (وعد بلفور) المشؤوم. هذه الاتفاقية مزقت الأوصال، وأثارت النعرات، وأحيت الطائفيات، وعززت القبليات، وأعطت مفهوماً خاطئا للمواطنة، وتصنيما للحدود، وعِداء مستحكماً بين الأخ وأخيه، وجعلت الولاء للتراب، لا للتراث، واختلقت الملفات الساخنة، ودعمت (الدكتاتوريات) البغيضة، وأشعلت الفتن العمياء. حتى إذا أكلت تلك المؤامرات الحرث والنسل، هَبَّ المستعمر لإصلاح ذات البين، ليغسل بتلك الخِدْعة ما علق بأظافره من أشلاء الضحايا والمخدوعين. وحين تلتقط الضحية نَفَسَها، يكون الاستعمار قد فرغ من مكيدة أخرى، تدمر كل شيء أتت عليه.
وجاءت الجولة الثانية مُمثلة بـ(الثورات العربية)، الهاتفة بالحرية، والمنادية بالاستقلال، والمبشرة بالعدل والإحسان، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وتداول السلطة، وتعزيز المجالس النيابية، والاحتكام لصناديق الانتخاب، مع وقف التنفيذ. وطويت صفحة الاستعمار التقليدي بثكناته ومناديبه، لينشأ استعمار جديد، أشد وأعتى. لقد جاء الثوريون على ظهور الدبابات وخَلْف الراجمات، وتردت بمجيئهم من قاع المجتمع أوضاعُ البلاد العربية، حيثُ سُلِبت الحريات المكفولة من المستعمر، وأهينت الكرامات المصونة من الأجنبي، وضاعت مقدرات العالم العربي المعززة والمستثمرة زمن حكم المناديب والثكنات، كما ضاعت الخلافة الإسلامية من قبل، بين (وصيف وبغاء) الذي يقول عنها الشاعر:
(خَلِفيةٌ في قفصٍ: بين وصيفِ وبغاء
يقول ما قالا له: كما تقول الببغاء)
وقامت الأحزاب، ملتاثةً بـ(أيديولوجيات) شرقية أو غربية، واحتربت فيما بينها على غنيمة منهكة، خرجت من ظلم الاستعمار إلى بطش الثوار.
وما درى المحتربون أن نور الله يُوقَدُ من شجرة زيتونة، لا شرقية ولا غربية.
ولو أن الثوريين استقاموا على الطريقة، وتمثلوا مبادئ ثوراتهم، لعاشت الأمة رغد العيش، ودف الأمن، وعبق الحرية، ولأصْبَحت الشعوبُ العربية كالشعب (الياباني) الكادح من أجل كرامته. لو أنها فعلت بعض ذلك، لفوَّتت على الغرب فرصة الهيمنة، ولكن الثوريين خاضوا في وحل اللعب القذرة، وأخذوا من الغرب ما لا حاجة لهم به، وهم حين أخْرجوا المستعمر من الأبواب، تسلق اليهم المحاريب، منساباً كالحذر، متنكراً وراء طابوره الخامس، ومتقنعاً بلعبه، ومؤامراته، موهناً عزائم الأمة بالتحريش بين قبائلها، وطوائفها، ونخبها. حتى أصبحت كل قبيلة دولةً داخل دولة، وكلُّ طائفة تلعن أختها، وكل نخبوي له مذهبه الذي لا يزايد عليه، ولا يبالي بأي واد هلكت المذاهب الأخرى، وحتى أصبحت الدولة الفقيرة تنطوي على أكثر من أربع مئة حزب، كل حزب بما لديهم فرحون. وفي هذه الأجواء الموبوءة استفحل الجهل، والفقر، والمرض، والعبودية، وشاعت ثقافة النفاق، والشقاق، وسوء الأدب، والأخلاق.
يتبع ...