تواجه المملكة تحديات داخلية وخارجية جمة؛ فقد كان التحدي الأول والأخطر الذي لم يكن يتوقع الأعداء أن تنهض بعده الدولة السعودية اعتداء الخلافة العثمانية على بلادنا واستباحتها دما وأرضا وعرضا دون ذريعة مقنعة سوى الخوف من الدولة الناشئة على سلطتها في المشرق العربي، ثم كان التحدي الثاني الأبرز بعد ذلك هيمنة النزاعات الداخلية بين الأخوين عبدالله وسعود بن فيصل من عام 1282هـ إلى عام 1306هـ، ثم التحدي الثالث استعادة الدولة في مرحلتها الثالثة بقيادة العبقري عبدالعزيز بن عبدالرحمن، ثم التحدي الرابع مواجهة المدين القومي والشيوعي في الخمسينيات وما بعدها من القرن الميلادي الماضي، ثم التحدي الخامس مواجهة فتنة الحرم المكي مطلع القرن الهجري الخامس عشر، ثم التحدي السادس نشوء تيار جهادي تكون في الأرض الأفغانية إبان الاحتلال السوفييتي وعودة كثيرين من أبناء المملكة ممن شاركوا في مواجهة الاحتلال الشيوعي لأفغانستان بفكر آخر مؤدلج ومصاغ بمقاسات جديدة من متطرفين إسلاميين عرب وما أحدثته عودة كثيرين من الشبان المقاتلين على الجبهة الأفغانية من تكون رؤى متطرفة تأخذ بالتكفير والخروج على الولاة، ثم التحدي السابع غزو صدام للكويت عام 1411هـ وما جر إليه من تداعيات، ثم التحدي الثامن تداعيات أحداث 11 سبتمبر 1990م بعد ضرب أبراج نيويورك من القاعدة، ثم التحدي التاسع معركة الإرهاب والتطرف التي بدأت عام 1423هـ وما زلنا في ذيولها بتأجيج من فكر ما سمي بالقاعدة.
هذا على الصعيد السياسي في التاريخ البعيد والقريب، وقد تجاوزتها الدولة بحمد الله واستمرت نامية متصاعدة لا تقع أزمة إلا وبعد أن تتعقد حبالها تتفكك سريعا وتهدأ العواصف.
وتمر الدولة الآن بتحديات جديدة داخلية وخارجية تتبادلان الأسباب والنتائج، بمعنى أن الأحداث المحيطة بالمملكة تكون ردود فعل داخلية، وأن التحدي الداخلي ينجم أحيانا وفي بعض صوره عن الضغوط الخارجية السياسية والعقدية والعسكرية، ولأضرب لذلك مثالا بما حدث من غزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان والشيشان، وقدوم القوات الأجنبية التي شاركت في تحرير الكويت، والاحتلال الأمريكي للعراق، والغطرسة الإسرائيلية في فلسطين، وما تشهده سوريا الآن من إجرام وتدمير يقوم به النظام النصيري بدعم من دولة فارس وما سيتبعه من أحداث متوقعة على منطقة الشام كلها مما سيولد تيارا جهاديا مقاوما لمحاولات فرض السيادة الفارسية على الشمال العربي ومنطقة الخليج.
إن التحدي الخارجي الأكبر الآن هو ما تبينت خطوطه العريضة بانحسار الستار عن التمثيلية الهزلية الدموية باحتلال أمريكا للعراق وتسليمه لإيران، ثم ترك الحبل على الغارب لتمارس إيران فرض سيادتها وهيمنتها على المنطقة بممارسة تدمير سوريا بشرا وعمرانا وتاريخا، وتكوين دولة شيعية متطرفة أخرى في لبنان ممثلة في جيش ما يسمى بحزب الله، ولن يقتصر الخطر الإيراني المركب من عقيدة مجوسية فارسية ترتدي ثيابا إسلامية مهلهلة لخديعة الشعوب العربية والإسلامية عند خطر ضم العراق وسوريا؛ بل إن حلمها الأعظم في استعادة مجد الإمبراطورية الساسانية القديم والانتقام مما يسمونه الغزو العربي الأول في القادسية، ولذا يكرهون عمر بن الخطاب الخليفة الثاني، رغم ادعائهم الكاذب محبة آل البيت رضوان الله عليهم!
أما التحدي الداخلي للدولة السعودية في هذه المرحلة فيتمثل بما أحدثته ثورة الاتصالات من انفجار معلوماتي وسرعة انتشار الرأي، والمقدرة على التواصل السريع؛ مما هيأ لانتشار الرأي الجيد منه والرديء، الوطني منه والمختطف من جهات معادية، المحب منه والكاره، العاقل منه والمجنون، وهو ما يستوجب تقوية الصف الوطني الداخلي بإعلاء مفهوم الوطنية، وتوليد خطاب إعلامي ذكي لترسيخ مفهوم أن الإنسان بلا وطن لن يكون له أرض تؤويه ولا سماء تظله ولا أهل يحتضنونه ولا مصدر رزق يقتات منه قل أو كثر، وأن الأرض ليست جنسية فحسب؛ بل هي تربة تمخضت منها أمشاج آبائنا المؤسسين قبل مئات الآلاف من السنين، وهي التاريخ والقيم والتراث والعادات واللغة والهوية، ولن يستطيع الإعلام الإقناع بهذا الخطاب الجديد إلا حين يكون مدعوما بصورة قوية وملموسة بإنجازات مرضية، وبتسهيلات في العيش مريحة، فلن يقتنع مواطن مهما بلغ من تغلغل مفهوم الوطنية في أحشائه بولائه للدولة والوطن وهو يرى ما لا يؤكد هذه المعاني السامية الشريفة من مظاهر فساد أصبحت حديث وسائط الاتصال، والندوات والصحافة، وأنشئ لمكافحة هذه الظاهرة جهاز يعني بتتبع صور الفساد للحد من استفحاله متمثلا ذلك في «نزاهة» وهو اعتراف رسمي من سلطة الدولة العليا بخطر هذه الظاهرة، ولن يقتنع مواطن أيضا مهما بلغ من مثالية بأهمية معنى الوطنية وافتداء الوطن بالغالي والرخيص وهو قد لا يجد مقعدا في جامعة، أو سريراً في مستشفى، أو وظيفة تدر عليه مصدر عيش، أو سكنا يؤويه!
والتحدي الداخلي هنا وفق هذا المفهوم لا يقل أبدا عن خطر التحديات الخارجية؛ وغرس هذا المفهوم لن يتأتى بخطاب إعلامي أعزل عن إنجازات رفيعة موازية ولا تسهيلات عملية تخفف من أعباء العيش على المواطن، وذلك بالسعي الجاد ووفق خطط سنوية مدروسة متوالية سنة بعد أخرى لتقليص النسب العالية في تدني مستوى الفقر، والبطالة، وعدم الحصول على مسكن، وتوفير الخدمات الضرورية التي أصبحت لا تفي بحاجات المواطنين المتنامية نظرا للزيادة الكبيرة في عدد السكان؛ مثل تحديث البنية التحتية، والتوسع في إنشاء المطارات والنقل الجوي والطرق البرية والحديدية وفك الاختناقات المرورية والمشافي والجامعات والمجمعات السكنية، وغيرها.
ولا شك أن تكوين خطاب إعلامي جديد وشفاف سيسهم في مداولة الرأي الوطني في الداخل لإصلاح ومعالجة أوجه النقص بدلا من تصدير مشكلاتنا إلى منابر رأي خارجية تتعيش على استدرار عواطف المواطنين وحاجتهم إلى بث الرأي والتنفيس عما يختلج في دواخلهم.
ولا شك أن هذه التحديات بشقيها كبيرة وثقيلة؛ ولكن الدولة السعودية ولله الحمد تجاوزتها في الماضي بما تتوافر عليه قيادتها السياسية من خبرة طويلة وحنكة ودهاء وطول مراس، وستتجاوزها في الحاضر بتعجيل حركة الإصلاح الداخلي بخطوات عملية أكثر تأثيراً.
moh.alowain@gmail.commALowein@