الجرائم الفظيعة التي أدمن ارتكابها النظام السوري ما زالت تزداد عنفاً وشناعة. ولقد كتبت عنها عندما كان المنتفضون ضد الاستبداد والفساد والظلم ينادون ـ طوال ستة أشهر أو تزيد ـ بأن انتفاضتهم سلمية تنشد الحرية والعدالة.
وكان النظام ـ بالرغم من سلمية الانتفاضة ـ ينتشي بارتكاب الجرائم ضد المسالمين والأبرياء؛ شيوخاً وأطفالاً ونساء؛ ناهيك عن الرجال البالغين. وكانت مواقف الجهات المُتعدِّدة؛ إقليميًّا وعربيًّا ودوليًّا، مختلفة. بعضها كان واضح العداوة للهَبَّة الشعبية في سوريا؛ مثل روسيا، وإيران، والعراق التي يُسيِّرها النظام الإيراني كيف شاء، وبعضها واضح التعاطف مع تلك الهَبَّة وإن كانت حركته مُعرَّضة لكوابح لم يكن في مقدورها الإفلات من قبضتها أو تجاهلها. لكن كانت هناك جهات بينها ما هو عربي من الناحية الرسمية اتَّخذت موقفاً أقرب ما يكون على تأييد مرتكبي الجـرائم أو التواطؤ معهم.
وكان في مُقدَّمة الجهات التي عُهِد إليها النظر فيما يحدث ويرتكب فوق الربوع السورية جامعة الدول العربية، التي أثبت أمينها العام أنه كان بعيداً عن الكفاءة للتعامل مع المَهمَّة التي عُهِد إليه التعامل معها. وقد نشرت مقالة عنوانها: “هل يرعى الأمين العام الأمانة؟” الجزيرة،13-2-2012م.
وأوضحت في تلك المقالة أن تصريحات الأمين الهزيلة، واختياره السيئ لمن تَولَّى رئاسة الفريق المرسل إلى سورية لتقصِّي الحقائق، وحصره مَهمَّة ذلك الفريق في مراقبة ما يرونه بعد وصولهم إلى هناك وليس لمعرفة ما قبل ذلك.. كلُّها تَدلُّ على أنه كان بعيداً عن التوفيق. وكان الفشل حليف الفريق وذلك الأمين الذي أرسله.
وكان ذلك الفشل المُتوقَّع - منذ البداية - مدعاة لإرسال السيد كوفي عنان مبعوثاً أُمميًّا للنظر في المشكلة السورية، أو في الأصح الجرائم المستمرة في سورية. ولقد ثبت أن خطة ذلك المبعوث المُكوَّنة من ستة بنود لم يُنفَّذ واحد منها أن الناتج الوحيد عنها إطالة عمر النظام المرتكب للجرائم ومنحه مزيداً من الفرص للفتك بخصومه؛ بل إن السيد عنان، الذي كان يفترض فيه مناصرة الحق - أو الوقوف على الحياد في أَقلِّ الأحوال - برهن على أنه أشبه بشاهد الزور أو كاتم الشهادة. وقد نشرت مقالة حول ذلك عنوانها: “هكذا يستمر التخاذل عن مناصرة الحق” (الجزيرة، 19-8-1433هـ).
وإذا كان الأمين العام للجامعة العربية قد ثبت فشله في التعامل مع ما كان يرتكب من جرائم في سورية فإن السيد كوفي عنان قد فشل، أيضاً، في مَهمَّته نتيجة عوامل بينها موقفه السيئ؛ تصريحات وممارسة. وبعد فشله وفشل مَهمَّته تَولَّى القضية من هو ليس من المتواطئين مع النظام السوري ببعيد إن لم يكن من أحرصهم على التواطؤ. بل إنه برهن على وقوفه صراحة مع مرتكبي الجرائم؛ وذلك بترديده ما ظَلُّوا يُردِّدونه، ويُبرِّرون به ارتكاب جرائمهم الشنيعة. وكان من المقالات التي كُتِبت عنه وعن موقفه مقالة نشرتها الكاتبة رندة تقي الدين في صحيفة الحياة يوم الأربعاء الماضي بعنوان: “مَهمَّة الإبراهيمي المستحيلة”. وبغض النظر عما أظهرته من ثناء عليه وكأنه قبل القيام بالمَهمَّة تضحية منه ـ وهو أمر قد لا يوافقها عليه كثيرون ـ فإن مما ورد في مقالتها ما يأتي:
“كل مرة ذهب فيها الإبراهيمي إلى سورية للقاء الأسد غلب عليها ـ وفق ما نُشِر في الصحف اللبنانية القريبة والمًؤيِّدة للنظام السوري ـ الموقف الأسدي نفسه؛ أي نكران الواقع. فالإبراهيمي يرتكز على نص جنيف”. وكان ما اتُّفق عليه هناك بزعامة وزير خارجية روسيا ووزيـرة خارجية أمريكا - أو من إملائهمـا - فيه ما فيه من غموض ومجانفة للحق والعدل. ومما قالته الكاتبة: إن من الخطأ القيام بوساطة دبلوماسية مع شخص يقتل شعبه ويقصفه بالطائرات والمُدرَّعات. وإن على الدول الكبرى أن تجبره على التنحِّي وتحاكمه، وعلى أمريكا أن تَتحرَّك وتوقف إعطاء الأسد المزيد من الفرص للقتال.. ودبلوماسية الإبراهيمي لن تجدي بكل الأحوال.
أما كاتب هذه السطور المكلوم كغيره من أبناء أُمَّتنا مما يرتكب من جرائم شنيعة على الأرض السورية فإنه لم يرتح إلى وساطة الإبراهيمي منذ البداية؛ بل كان يرى فيها تواطؤاً من أعداء أُمَّتنا لإتاحة مزيد من الوقت لاستمرار ارتكاب تلك الجرائم بحق الشعب السوري، وتدمير سورية ما شاء لها أولئك الأعداء أن تُدمَّر. ولقد اتَّضح أن عدم الارتياح إلى تلك الوساطة عند بدايتها لم يكن غير صواب. فقد تَجلَّى موقف صاحبها بما لا غموض فيه؛ وهو أنه موقف مُتَّفق بشكل يكاد يكون تاماً مع موقف رئيس النظام المرتكب للجرائم وأعوانه من زعماء روسيا وإيران وتابعتها العراق. موقفه موقف ما زال يُردِّده من لا يريدون خيراً لأُمَّتنا؛ وهو: إما أن يُتَّبع ما يريده نظام الأسد المرتكب للجرائم، واجبار المظلوم المرتكب بحقه تلك الجرائم على الجلوس على مائدة التفاوض مع النظام المرتكب لها، وإما أن تَتحوَّل المنطقة كلها ـ بل وربما العالم ـ إلى جحيم.
وإذا كان موقف الأمين العام للجامعة العربية تجاه ما كان يحدث في سورية قد ثبت عدم توفيقه؛ بل كان سيئاً، فإن موقف السيد عنان؛ بخطَّته ذات البنود الستة، موقف أسوأ من موقف الأمين العام للجامعة العربية. على أن الأشدَّ سوءاً من الاثنين هو موقف السيد الإبراهيمي الذي يكاد يكون هو موقف رئيس النظام السوري نفسه كما يرى كل متابع لتصريحاته وممارساته. وهو حتى الآن يحاول بكل ما يستطيع أن يبقي النظام المرتكب للجرائم الفظيعة قائماً مُتسلِّطاً يُقتِّل الأبرياء والمناهضين للظلم والطغيان، ويُدمِّر ما بقي من عمران على سورية المنكوبة.
موقف روسيا المؤيِّد للنظام الإجرامي في سورية والداعم له؛ سياسياً وتسليحياً، موقف معروف. وكذلك موقف الزعامة الإيرانية وتابعتها الزعامة العراقية. لكن مما ذكرته الكاتبة رندة تقي الدين موقف أمريكا، الذي قالت: إن عليها أن تَتحرَّك وتوقف إعطاء الأسد المزيد من الفرص للقتال وأقول لارتكاب الإجرام.
والحديث عن موقف أمريكا مما يجري جدير بالحديث. بعد وقت قليل من انطلاقة هَبَّة أكثرية الشعب السورية - وكانت سلمية منادية بالحرية والعدل - قالت أمريكا: إن النظام السوري فقد شرعيته، وإن أيام رأس ذلك النظام باتت معدودة. وربما فهم من لم يقرأوا تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة قراءة تَأمُّل كافية أن الإدارة الأمريكية صادقة فيما أعلنته، وظنوا أنها ستقف بجد مع القائمين ضد النظام الأسدي المرتكب للجرائم. ولم يدر في خلدي أن أمريكا المؤيِّدة للصهاينة المدافعة عن إرهابهم ستقف ضد نظام ليس في زوالـه مصلحة لكيان أولئـك الصهاينة. ذلك أن ما ارتكبته الإدارات الأمريكية منذ نشأة الدولة الأمريكية من جرائم بحق شعوب مُتعدِّدة لا يدع مجالاً للتفكير بأنه ستقف ضد نظام يرتكب الإرهاب والإجرام ضد أُمَّتنا. وإن ما ارتكبته في العراق وحدها كاف للتدليل على ارتكابها الإجرام بحق هذه الأُمَّة. ذلك أنها لم تكتف بتدمير البنية الأساسية في ربوع الرافدين، ولا بتحطيم القوة العسكرية للدولة الوطنية هناك، ولا بنهب تراث العراق وتدمير ما دمَّرت منه؛ بل إنها تواطأت مع النظام الإيراني، وسهَّلت دخول أعداء العراق إلى تلك الربوع؛ سواء كانوا من أبناء العراق أو من الفرس الذين انتحلوا جنسيات وأسماء لمراقبة، أن يدخلوا من إيران بكامل أسلحتهم، ثم يَسَّرت لهم الوصول إلى مقاليد، أو في الأصح ـ سَلَّمت تلك المقاليد إليهم؛ مُكرِّسة مشاعر الطائفية والعرقية الانقسامية بين العراقيين.
الواقع أن أمريكا - كما ذكرت في مقالة الأسبوع الماضي - لم ترد أن تَتَّخذ موقفاً جاداً تجاه الجرائم المرتكبة في سوريا لأن قادة الكيان الصهيوني - كما قال مندوبهم إلى مؤتمر عُقِد في أوروبا بعد بدء الهَبَّة السورية بأسابيع قليلة - درسوا الوضع دراسة دقيقة، فَتوصَّلوا إلى أنه ليس من مصلحة ذلك الكيان زوال النظام السوري حينذاك. وكان صدى ذلك أن الإدارة الأمريكية، التي صَرَّحت في بداية الأمر أن نظام الأسد قد أصبح فاقد الشرعية، تراجعت عن موقفها الأول. وثَبَّطت همم الذين حاولوا الوقوف مع هَبَّة الشعب السوري العادلة؛ بل حَذَّرتهم وأنذرتهم إن مضوا في محاولتهم تأييد الانتفاضة السورية وعارضت بشدة إمداد المدافعين عن مواطنيهم بالسلاح. ومعارضة تسليح أولئك المدافعين؛ وبخاصة بما يَشلُّ حركة طيران النظام المجرم، هي في حقيقة الأمر اشتراك مع المجرم في إجرامه. وكلٌّ يعلم أن الروس يمدًّون النظام بما يريد من أسلحة، وأن النظام الإيراني كذلك يَمدُّه بالأسلحة والمؤن مباشرة وعبر العراق، بل ربما تَعدَّى ذلك إلى إمداده بالخبراء والمحاربين. ولم يعد يَهمُّ قادة أمريكا أن ترتكب الجرائم ضد الشعب السوري وأن تُدمَّر بمختلف أنواع الأسلحة الفَتَّاكة ما دامت شر تلك الأسلحة لا يتجاوز الحدود السورية؛ وبخاصة تلك التي مع الأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني. ما يُهمُّ الإدارة الأمريكية هو سلامة الكيان الصهيوني من كل أذى. ليبطش بالشعب السوري بكل أنواع الأسلحة، ولتدَّمر سورية وفي كُلِّ مجال من مجالات الحياة. هذا لا يهمُّ. المُهمُّ عدم احتمال نيل الصهاينة بأَيِّ ضرر. لو أن السلاح الكيماوي مضمون عدم اقتصاره على داخل الأراضي السورية فإنه لن يكون هناك قلق في نفوس قادة أمريكا وأمثالهم من أعداء أُمَّتنا. لكن هذا السلاح قد يمتد تأثيره وأذاه إلى خارج تلك الأراضي. ومن هنا جاء التحرُّك وأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع استخدامه من حماية للصهاينة لا رأفة بالسوريين.
على أني بالرغم من كُلِّ ما يجري ما أزال أرى بوادر أملٍ يلوح في الأفق، وأن اليأس يجب أن لا يَدِّب إلى نفوس المؤمنين بنصر الله، ثم بقدرة الشعوب بتوفيقه على تحقيق النصر.