|
سألني أحد الأصدقاء من المملكة العربية السعودية عن رأيي كناقد فني بالمغني السعودي خالد عبد الرحمن، وقد ذكر لي يومها أن لهذا المغني جمهورا واسعا من الشباب السعودي، وطلب مني كتابة رؤيتي الفنية عن تجربة هذا المغني.
وما كان مني إلا أن لبيت طلبه لمنزلته الخاصة عندي، وبالفعل فقد قمت بالاستماع لعدد كبير من أعماله، وقمت باعتماد خطة بحث مبسطة ومقتضبة، مؤلفة من ثلاثة محاور.
المحور الأول: دراسة الكلمات - المحور الثاني: دراسة اللحن - المحور الثالث: دراسة الصوت.
وقد استعنت بعينة عشوائية من أغانيه، وقد بلغ عددها حوالي خمس عشرة أغنية.
وأحسب أنها تكفي لدراسة أي تجربة فنية.
المحور الأول (الكلمات):
لحسن الحظ فإن موقع المغني «خالد عبد الرحمن» يحتوي على كلمات أغلب أغانيه، لذلك كان من السهولة بمكان الحصول عليها ودراستها بشكل جيد.
وقد تفاجأت بأن غالبية الكلمات هي من نظم المغني نفسه، وأذكرها حسب ما هو مدون في الموقع ذاته، وهي: 1- «صدقيني» 2- «بلا ميعاد» 3- «خذ ما تبي» 4- «ضويتي بخاطري» 5- «يا لايمتني» 6- «لالا تناجي» 7- «إفراق» 8- «لك خافقي» 9- «حقيقة»10-»طرف جفن عيني» .
وكانت النتيجة بالنسبة للكلمات، بأنها بالمجمل سطحية وتفتقر لصنعة كتابة الشعر الغنائي، سيما أن المغني يفتقر لأهم شرط من شروط كتابة الشعر، ألا وهو المحافظة على الوزن الشعري «البحر»، حيث نقرأ العديد من الأبيات المكسورة بطريقة واضحة، ولم يكتفِ بكتابة الشعر الشعبي فحسب، بل عمد إلى كتابة القصيدة الفصحى التي تحتاج إلى مهارة خاصة في اللغة والوزن، فكانت النتيجة مخيبة للآمال، حيث إنه طرق باباً لا يطرقه إلا من كانت لديه الكفاءة الأدبية، ومثال ذلك أغنية: «لا لا تناجي»، ومنها هذه الأبيات:
لا لا تناجي كفاك نضال/ دع لي غرامي وأجد لك أمل
لا لم أراك يوماً حفظت الوصال/ ادفع ثمن هزلك بهذا الجهل
اجعل من الماضي ذكرى تقال/ واعرض عن الحاضر كفاك جدل
أنا لست هيماناً بذاك الجمال/ ذهب الجمال منك أم لا يزل
أسألك يوم غدري أجبني السؤال/ أم للغرام شرعك حب الهزَل
لك تجدني قريباً بعيد المنال/ قلبي بهيمانه وضع ما حمل
أنصحك لا تعايش ذميم الخصال/ تغدو إلى دنيا تعاني الفشل
ضع للغرام قدراً كفاك احتيال / واعدل بحق غيرك كما لك عدَل
فكان يفترض أن تكون هذه القصيدة من البحر «المُتقارب» والذي عليه نُظمت قصيدة الشاعر «أبي القاسم الشابي» (إذا الشعب يوماً أراد الحياة...فلا بد أن يستجيب القدر).
ومفتاح البحر: «عن المتقاربِ قال الخليل....فعولن فعون فعولن فعولن»
لكن شُحّ المخزون الثقافي الأدبي لدى المغني جعله ينحرف منذ البيت الأول عن البحر الشعري ويدخل في مطبات إيقاعية لا تنتهي إلا بانتهاء القصيدة، ناهيك عن الأخطاء النحوية الكثيرة التي تحفل بها القصيدة.
وقد أرسلت هذه القصيدة لأحد الشعراء المعروفين في ساحة الشعر العربي، فكان رأيه يتقاطع مع رأيي بالكلية، وقد أضاف بأن البحر «المتقارب» الذي من المفترض أن تنظم القصيدة عليه يعتبر من أسهل البحور الشعرية، ومن لا يجيده يستحيل أن ينظم على غيره من البحور الشعرية الأكثر صعوبة، اعتماداً على قاعدة «من لا يملك القليل، لا يملك الكثير».
وهذا الضعف الوزني انسحب على كافة الأغاني الشعبية التي كتبها المغني دون استثناء.
أما لجهة البلاغة الشعرية والمعاني، فلم تكن أحسن حالاً من الوزن، فقد اعتمد المغني على الصور السطحية والمطروقة، وهي لا تلتقي مع الذائقة الشعرية السليمة لدى المهتمين بالشعر الشعبي في منطقة الخليج العربي.
ومن الأمثلة على هذه الكلمات:
وشلون أبمشي بطاعتك...وانتي علي تقسين
إخذي القرار براحتك...ما أسألك زين أو شين
ويستطيع أي متذوق للشعر أن يلاحظ بسهولة ركاكة المعاني وسطحيتها، وبالطبع فهذه الملاحظات تنسحب على جميع ما كتبه المغني من كلمات الأغاني التي سبق ذكرها.
ولا أدري حقيقةً، مالذي حدا بالمغني كي يعتمد على نفسه في كتابة معظم أغانيه، والساحة الخليجية مليئة بفحول الشعر النبطي والفصيح والغنائي، فإن كان سبب رفض التعامل مع هؤلاء الشعراء يعود للمغني نفسه، فهذا يدل على غرور واضح يسيطر على شخصيته بالإضافة إلى وجود مشكلة لديه تتعلق بذائقته الشعرية، أما إن كان السبب يعود لهم في ذلك، فهو دليل على عدم ثقتهم بموهبته من جهة، وخشيتهم على كلماتهم من أن تفقد قيمتها الفنية فيما لو ظهرت على الجمهور بصوته وألحانه.
وقد يكون سماح مؤلف قصيدة «من عذابي» للفنان عبادي الجوهر بإعادة تلحين وغناء القصيدة، التي سبق وغناها المغني خالد عبد الرحمن، من هذا القبيل، وهو يعتبر بمثابة سحب للثقة وعدم الاعتراف بالعمل الذي قدمه الأخير.
المحور الثاني (الألحان):
قدم المغني عدداً كبيراً من الألحان، وقد استعرضت كما ذكرت آنفاً بعضاً منها، ولن أتحدث هنا عن جمالية الجملة اللحنية في أعماله، فلا شك أن هناك الكثير من الجمل الجميلة والجديدة، لكن ما أودُّ التركيز عليه في هذه العجالة هو جودة الجملة الموسيقية، بمعنى آخر (البحث عن الجملة الموسيقية المدروسة)، والتي لم أجد لها أثراً في كل ما سمعته من أعمال المغني، باستثناء أغنية «تقوى الهجر» التي كان موفقاً إلى حدٍّ ما بصياغتها اللحنية.
لذلك فقد جاءت معظم الأعمال على شكل «طقطوقات» بسيطة تعتمد على الجملة اللحنية الواحدة التي تتكرر من بداية الأغنية وحتى نهايتها، فلا يوجد تغير بالجو ولا بالخط الدرامي للأغنية على الإطلاق، رغم تغير هذا الجو في النص الملحَّن «الكلمات»، بمعنى آخر فإن المغني خالد عبد الرحمن لا ينتمي إلى المدرسة التعبيرية في التلحين، والتي ينتمي لها العديد من فناني السعودية الكبار أمثال طلال مداح وطارق عبد الحكيم ومحمد عبده وسامي إحسان وغيرهم.
وتتلخص فكرة المدرسة التعبيرية بوجوب أن يكون اللحن خادماً للنص الشعري الغنائي، بمعنى أن يحاول الملحن أن يرسم معاني كلمات النص الشعري بأدواته الفنية المتاحة (لحن - مقامات - إيقاعات - توزيع ...)، ولتوضيح هذه الفكرة فسنستعرض بعض الأمثلة: فمثلاً لو احتوى النص الشعرى على كلمة «طويل» فيجب على الملحن أن يقوم بمد هذه الكلمة قدر المستطاع، ليوحي للمتلقي وعبر الغناء بحالة الطول.
كذلك لو ضم النص كلمة «صرخة» كان لزاماً على الملحن الارتقاء باللحن إلى الطبقات الموسيقية الحادة والعالية مع مد الجملة اللحنية، كما فعل الفنان طلال مداح عندما لحن أغنية «زمان الصمت» التي كتبها الشاعر بدر بن عبد المحسن، حيث نلاحظ الطريقة الرائعة التي لحن فيها جملة «صرختي تذبل»، حيث اعتمد على مد الكلمة بشكل واضح ومعبر، مع اختياره لدرجة صوتية عالية، ومقام موسيقي يخدم الحالة الدرامية، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى.
كما يجب الالتفات إلى جو النص الشعري (العام والمتغير) فالنص عادة ما يحتوي على أجواء متعددة، فمثلاً قد يبدأ الشاعر قصيدته بالعتاب وفي أبيات أخرى يتحول إلى التفاخر وإظهار التحدي ومن ثم يتحول إلى الاعتذار، فكل هذه أجواء نفسية متباينة، يجب على الملحن المتقن أن يلتفت إليها، لا أن يضعها كلها في سلة لحنية واحدة، فالمقاطع الحزينة لها ما يناسبها من المقامات الموسيقية كمقام الصبا والحجاز على سبيل المثال، وهناك مقاطع راقصة وفرحة يناسبها مقام البيات والعجم والراست.
ملاحظة: هناك بعض الألحان السعودية التي عمَّت العالم العربي شهرةً، بسبب انتمائها إلى المدرسة التعبيرية، التي تعتمد على الألحان المركبة والمتنوعة بتنوع الجو الشعري للنص الغنائي، ومنها أغنية «زمان الصمت» و»مقادير» للفنان طلال مداح، كذلك أغنية «إبعاد كنتم» و»الأماكن» للفنان محمد عبده، وغيرها العديد من الأعمال.
لذلك أستطيع القول إن السبب وراء عدم التفات المستمع العربي باستثناء بعض الدول الخليجية إلى أعمال المغني «خالد عبد الرحمن»، بل عدم سماعهم باسمه، يعود إلى عدم ارتقاء الجملة اللحنية في أعماله لذوق المستمع العربي سواء في بلاد الشام أو مصر والمغرب العربي عموماً، حيث إن المستمع في هذه الدول قد اعتاد على سماع الجمل الموسيقية المثقفة والمدروسة، والتي تتمثل بأعمال «سيد درويش» و»محمد القصبجي» و»رياض السنباطي» و»محمد عبد الوهاب» و»فريد الأطرش» و»الأخوين الرحباني» والقائمة تطول كثيراً.
وأخيراً نستطيع القول إن أعمال المغني «خالد عبد الرحمن»، تندرج بمجملها تحت إطار الأغنية الشعبية البسيطة، التي تعتمد على الجملة اللحنية المكررة، والتي تؤدي بالمستمع إلى الملل في نهاية الأمر، وهي تناسب كثيراً فئة معينة من المستمعين، الذين لا يمتلكون آذاناً مثقفة موسيقياً، أو وعياً أدبياً وفنياً ناضجاً، أما النخب المثقفة من المستمعين في الخليج العربي فهي لا تُعيرُ بالاً لمثل هذه الأعمال إلا ما ندر، وقد تأكدت من هذه الجزئية من خلال التواصل مع العديد من الأصدقاء المثقفين في السعودية والكويت والإمارات، والذين أكدوا أنهم يعرفون المغني «خالد عبد الرحمن» لكنهم لا يستمعون لأغانيه إلا صدفةً.
المحور الثالث (الصوت):
كثيرة هي الأصوات الشعبية في عالمنا العربي التي تعتبر محببة عند فئة واسعة من المستمعين، دون أن يكون لها من الناحية العلمية أي قيمة فنية تذكر، ولو تم اختبارهم أمام لجان فنية محايدة لتم استبعادهم من الساحة الفنية دون جدال.
ويعتبر المغني خالد عبد الرحمن من هذه الأصوات التي لاقت نجاحاً في بعض الأوساط الشعبية في العديد من دول الخليج العربي، حيث إن هناك فئة من الجماهير تحب أن تستمع لمغنٍ صوته يتميز بمساحة ضئيلة، ويؤدي أغاني بسيطة وسهلة يستطيع هو كمستمع أن يحاكيها بصوته، ويستمتع بفرصة دندنتها.
وقد قمت بالاستماع لبعض الأغاني التي يؤديها المغني بصوته المجرد دون موسيقى مرافقة أو عود، لأتحسس عن قرب المساحة الحقيقية لصوته، فوجدته صوتاً مساحته متواضعة كثيراً، ولا يوجد ما يميزه كثيراً عن صوت الإنسان العادي الذي ليس له علاقة وطيدة بالغناء.
ويطلق علمياً على صوته «الصوت المستعار»، وهو الصوت الذي لا يعتمد على الحنجرة في خروجه بل على سقف الحلق، وهو الحل الأمثل والأقل صعوبة لمثل هذه الأصوات، خاصة أنه يكاد لا يمتلك أي سيطرة على طبقة «القرار»، أي منطقة الأصوات الغليظة، وكذلك الأمر في طبقة «الجواب»، أي منطقة الأصوات الحادة، لذلك نراه دائماً يقف في منطقة الأصوات المتوسطة، وهي المنطقة الأكثر أماناً، والتي من شأنها أن تحميه من الانزلاق الصوتي «النشاز»، ومع ذلك فهو يغامر أحياناً في الدخول إلى منطقة غير منطقته ليقع في «النشاز» كما هو الحال في إحدى تسجيلات أغنية «تقوى الهجر» حيث يصل إلى منطقة القرار عند جملة «هذا غرور»، فيعجز عن الاستقرار على العلامة الموسيقية الصحيحة فيحقق نشازاً واضحاً.
لذلك فإنه ليس من الإنصاف أن نقارن صوت المغني «خالد عبد الرحمن» بغيره من الفنانين الخليجيين الذين يمتلكون مساحات صوتية عريضة، أمثال الفنان طلال مداح ومحمد عبده وأبو بكر سالم وعبدالله الرويشد وحسين الجسمي وغيرهم من الأصوات الخليجية اللامعة، الذين استطاعوا بواسطتها أن يحلقوا بعيداً خارج حدود بلدانهم، ليكسبوا بذلك جمهوراً كبيراً على امتداد الوطن العربي.
وبوسعنا القول، إن تجربة المغني خالد عبد الرحمن، هي من التجارب الجيدة في مجال الغناء الشعبي، ما دامت تحقق السعادة لشريحة معينة من المستمعين، لكنها من جهة أخرى قابلة لأن تتطور بشكل إيجابي وملحوظ، فيما لو استطاع المغني أن يطور من أدواته الفنية، ويطلع على تجارب كبار الملحنين الخليجيين والعرب، وأن يبتعد عن الكتابة لنفسه ويوكل هذه المهمة لشعراء حقيقيين.
وبالتالي يرتقي بالذائقة الفنية لجمهوره، بدلاً من تركه غارقاً في ساحة الأغاني الشعبية البسيطة التي تتراوح ما بين الرديئة والمتوسطة القيمة الفنية، فهذه النوعية من الأعمال لن تساهم إلا بتوسيع الفجوة بين جمهوره وبين الذوق الفني السليم.
وأخيراً: قد يبدو للقارئ العزيز أن هذه الدراسة فيها شيء من التجني والقسوة المفرطة تجاه المغني خالد عبد الرحمن، وأقول له: إني اعتدت أن أخلع عني كل المؤثرات التي من شأنها أن تخرجني عن حيادي وأنا أقيِّم أي تجربة فنية أو أدبية، وهذا هو النهج «الديكارتي» في البحث العلمي، الذي يطرح الحقيقة كما هي أو كما يراها الناقد دونما مجاملة أو تزيين، مهما كانت قاسية أو مؤلمة.
ولا شك أن الحقيقية كما رأيتها قد لا تروق لمحبي المغني بل قد تغضبهم كثيراً، لعلمي أن «حبك الشيء يُعمي ويصم»، لكن حسبي في هذه الدراسة المختصرة، أنني قدمت رأيي الحقيقي المستند إلى المعايير الفنية العلمية التي تعلمتها ودرستها.
* باحث موسيقي سوري مواليد 1952، درس التأليف الموسيقي في ألمانيا، كما تابع دراسة الموسيقى الشرقية في مدينة حلب في سورية، ودرس في العديد من المعاهد الموسيقية في سورية، له العديد من المقالات في مجلة الحياة الموسيقية التي تصدر في دمشق، صدر له كتاب «أصول النقد الموسيقي» طبعة بيروت، مقيم حالياً في ألمانيا