في هذا الحيز بيني وبينكم، كتبتُ كثيراً عن هدي محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام كما يحب ربنا، ويرضيه, في شؤون التعامل مع الضعفاء من الخدم والسعاة والمساكين والفقراء، بل كل محتاج ذي خصاصة.. ممن يؤثرون على أنفسهم وهم معكم ليس بالمال, بل بالجهد, ويعطونكم أكثر مما يأخذون منكم، ليس بالإطعام، والإيواء, بل بالطاعة، والامتثال، ويبذلون لكم أكثر مما يُبذَل لهم منكم.. في كل وجوه البذل سهراً، وخدمة, واستجابة، وصبراً.. بل احتمالاً لمشاق ما يكلفهم به الناس ممن قوي عليهم منهم..
وكان قدوة الخلق عليه الصلاة والسلام في إكرامهم، والشفقة عليهم، وتكليفهم بما يطيقون، ومنحهم الحقوق ذاتها لسواهم من أجر يؤخذ قبل جفاف عرق السعي من أجله, ومن مشاركة في اللقمة، والكسوة والمنام، ومن تكاليف شرعية في عبادة، ومثوبات, وعقوبات لا يختلف فيها أبيض، ولا أسود، لا غني, ولا فقير، لا كبير، ولا صغير.. على أي الأديان يكونون..
في النهاية هناك رب يحاسب، إن لم يوجد ضمير يعاقب..
غير أن غالبية الناس استشرت في قسوتها، بنبذهم وحرمانهم من الراحة، وحسن الملبس، وشراكة المطْعم، ودعة المنام، والمفرَش.. بل في ساعات الراحة، وزيد في قلة الأجر، وإهمال المريض منهم دون العلاج، وتأخير الأجر عنهم، بل شحه وقلته عند المقتدرين.. وعدم الإكرام لهم، بل الإذلال، حتى أن هناك من يضربهم، ويضاعف عليهم العمل في آن، وقد منع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه..
فانتشرت ظاهرة الانتقام بينهم، وتمردت نفوس كثير من هؤلاء المستخدمين إما بالسرقة، أو الاعتداء الجنائي المستحق تعزيراً، أو قصاصاً مماثلاً، أو موجباً للقتل..
وظهرت الرذيلة في كثير من نتائج ضعف النفوس، والبحث عن العوض الذي افتقدوه عن سوء التعامل بدلاً من حسنه معهم..
وعلا سقف المسؤولية من حدود مستوى الكافل والمكفول إلى قوانين، ومعاهدات، وعقود بين الدول.. وما كان ذلك ليحدث لو تعامل الناس من البدء التعامل الأخلاقي الذي فند بنوده، ورسم أشكاله هدي النبي المصلَّى عليه، الذي عظم خُلقَه ربُّ الكون تعالى..
ومع هذا، فإن هناك أيضاً الكثير ممن يتعامل معهم بخلق حسن، يتقون فيهم ربَّهم، يحسنون إليهم، ويشاركونهم الحياة بعدالة الكفة التي لا ترجح في ميزانها سوى التقوى.. هؤلاء يحسنون مأواهم من اللقمة، فالراحة، فالعلاج، فالمشاركة الوجدانية، حتى أفراحهم وأتراحهم في بلدانهم, ويؤتونهم أجورهم قبل جفاف عرقهم.. بل يزيدون..
في ضوء ذلك، قد تناقلت الوسائل السريعة خبر المرأة المليونية التي جعلت من إرثها حقاً معلوماً لسائقها وخادمتها؛ إذ أفرغت لهما عقارات، وزودتهما بمال فاق ثمانية ملايين، ولسان حالها يقول:
«خدماني بإخلاص، سهرا معي، وعرفا طبعي، وتحملاني سنين طويلة دون تذمر، أفلا أكرمهما وقد أكرماني إخلاصاً، وجهداً..؟».. كذلك أولئك الذين يقفون بجوار مكفوليهم في السراء, والضراء، يقيلون عثراتهم، ويتحملون نفقات علاج أبنائهم، ومنهم من يجري النفقة عليهم حتى بعد أن تنتهي عقودهم معهم ويعودون لأوطانهم.. وهناك من يتبنون أبناءهم، ويحمون عوراتهم..
ففي مقابل التفريط من كثير في حق الخدم، والعمال والضعفاء، والمساكين, والمحتاجين، هناك الإفراط في التفريط، كما هناك الملتزمون بالواجبات نحوهم، والمقيمون الحقوق لهم، الخاضعون للهدي القويم في سلوك نقي، واضح، وجلي..
ولعلها مبادرة قيمة تلك التي استنها قبل أيام حاكم دبي، بجعل يوم الرابع من يناير من كل عام، يبدأ بهذا العام، يوماً للعمال, تحت شعار «شكراً لكم»؛ إذ مع إعلانه هذه المبادرة قد وجه فئات المجتمع الإماراتي جميعهم لأن يكرموهم في المؤسسات الخدمية, والعامة, وفي البيوت، بالاحتفاء بهم، شكراً لهم بالقول، وبتقديم هدايا لهم، ولو وردة..
فكما نحتفي بكل الأيام التي استنتها دول العالم دعونا نحتفل بمن يسهر على راحتنا، ويقوم على مواصلاتنا، ويعمل على نظافة بيوتنا، ويتعامل مع صغارنا، وشيبنا، ومرضانا، ويخدم في مؤسساتنا, وشوارعنا.. وقد يقدم لنا ما لا يفعله أخ، أو أب، أو ابن، أو قريب..!
إنهم يعرفوننا أكثر مما يعرفنا كما قالت سيدة الكرم، السيدة المليونية وهي تهب خدمها جزءاً كبيراً من مالها، أسوة بأبنائها، رضي الله عنها, وأثابها ما حيت، وبلغها نعيمه الذي لا ينفد في آخرتها والأولى.
فلتكن أسوة حسنة.. ولو بالكلمة الطيبة، والوجدان النقي.. وحبة حلوى، أو زهرة من حديقة..!
عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855