لا أعتقد أن الروايات تصلح لأن تكون موضعاً للاستشهاد لتأكيد بعض الحقائق أو نفيها..
وقد اشتهر الكاتب الأمريكي “كولن ويلسون” بالاستشهاد بمقاطع من الروايات أو بشيء من أحداثها وربما يساعد مثل هذا الاستشهاد على زيادة وتكثيف الاستمتاع الأدبي لكنه غير مقنع منطقياً لإثبات أمر ما أو نفيه.
للروايات عشاقها ومحبوها، وقد لا يستسيغ البعض الحديث عنها على اعتبار أنها تفيض بخيالات الكتّاب وأحلامهم، هذا صحيح، لكن الحياة تحمل أحداثاً ووقائع أحياناً وربما غالباً أغرب مما تحكيه الروايات وأشد قسوة..!
من تلك الروايات المؤثرة الواقعية التي قرأتها يوماً وبقيت في ذاكرتي “تلك العتمة الباهرة” التي كتبها الطاهر بن جلّون على لسان الراوي (بطلها).
الرواية تتحدث عن مجموعة من الشباب في إحدى الدول العربية، لسبب ما تم اعتقالهم قهراً وظلماً ووضعهم في سجن تحت الأرض في ظروف غير إنسانية لسنوات طويلة ووجدوا في هذا السجن أنواع العذاب التي لا يمكن أن يحتملها أي إنسان!
) ما أجمل أن تسير في هذه الحياة واثقاً متأبياً مرفوع الرأس لا ترضى الإهانة أو الذل، تنتزع حقك انتزاعاً قبل أن تفقده، لكي تحيا لابد أن تكون قوياً (إن لم تكن ذئباً - أكلتك الذئاب) لكن الأجمل من هذا أن تكون محباً متسامحاً فكلنا نخطئ وكلنا لا يخلو من عيب أو أكثر، لأننا بشر.. التسامح يحرر روحك من قيد الألم والقهر، هكذا يعمل التسامح في هذا الاتجاه أضعاف كونه لأجل الآخرين ولأجل راحتهم..
وفي هذا السياق.. في ظل هذه الرواية التي أدهشتني وهزتني من الأعماق حين قرأتها مرة ولازلت تواقة لقراءتها مرات، يتحدث الكاتب في إحدى الصفحات قائلاً (معظم الذين قضوا لم يقضوا جوعاً بل حقداً.. الحقد يُضعف، إنه يتأكّل الجسم من الداخل ويصيب جهاز المناعة. فعندما يقيم الحقد في دواخلنا ينتهي الأمر بأن يسحقنا، وكان ينبغي أن أخوض مثل هذه التجربة لكي أدرك أمراً بسيطاً كهذا..) ويقول (كيف لنا ألاّ نحقد برغم كل ما نكابده؟ كيف لنا أن نكون أكبر وأنبل من أولئك الجلاّدين البلا وجوه؟ وكيف لنا أن نتخطى مشاعر الثأر تلك ومشاعر التدمير؟)..
تأخذني الكلمات والمعاني تجعلني أشعر بعمق بفداحة الظلم، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الإنسان مستبداً وظالماً لأخيه الإنسان، يتابع بطل الرواية الواقعية (السجين) ظلماً، يخاطب رب الكون قائلاً: (أبعد عني الحقد، تلك النزعة المدمرة....، أعطني القدرة على أن أنسى، أن أستنكر، أن أرفض الرد على الحقد بالحقد، اجعلني في مكان آخر. أعنّي على التخلي عن هذا التعلق الذي يعيقني.. أعنّي على أن أخرج، لطفاً من جسدي هذا الذي ما عاد يشبه جسداً، بل رزمة عظام مشوهة، اجعل بصري ينصب على أحجار أخرى، هذه العتمة تلائمني...).