بمراجعة أرقام ميزانيات الثماني سنوات الأخيرة؛ نجد أن تركيز الحكومة في إنفاقها، كان منصبًا على تحقيق رفاهية المواطن من خلال الإنفاق على التَّعليم والصحة، وتوفير البنى التحتية؛ ودعم صناديق الإقراض والدعم؛ بأنواعها المختلفة وبما يجعلها متاحة لجميع شرائح المجتمع. النمو الكبير في الإنفاق الحكومي الذي تجاوز في مجمله 4.3 تريليون ريال؛ وانتهاج سياسة «الإنفاق التوسعي» ساعد في طرح مزيد من المشروعات التنموية الملحة..
والمُضِيّ قدمًا في استكمال خطط تنمية المناطق التي وعد بتنفيذها خادم الحرمين الشريفين؛ وبخاصَّة المناطق التي لم تحصل على حقها من التنمية.
التوسُّع الكبير في إنشاء المدن الصناعيَّة والاقتصاديَّة والطّبية؛ ونشر المستشفيات والمراكز الصحية؛ والجامعات والكلِّيات؛ ودعم الصناديق الحكوميَّة؛ وبخاصَّة صندوق التنمية العقارية، ومشروعات الإسكان؛ لم يكن ليحدث لولا توفر أمرين مهمين؛ الأول الموارد المالية؛ والثاني الرَّغبة الجامحة لدى الحكومة في إحداث ثورة تنموية حقيقية في جميع المجالات.
حرص الحكومة على تحقيق رفاهية المواطن؛ يظهر في حجم الإنفاق الحكومي الذي بلغ ما يقرِّب من 4300 مليار ريال خلال الثماني سنوات الماضية؛ وللأمانة؛ فالإنفاق الحكومي كان أكبر بكثير من قدرة شركات الإنشاءات على تحمله، مما أدَّى إلى تعثر بعض المشروعات أو تأخر تنفيذها؛ مما أفقد تلك المشروعات أهميتها لدى المواطنين. الرَّغبة الحكوميَّة في إنفاق المزيد على مشروعات التنمية قابلها ضعف شديد في قطاع الإنشاءات؛ وعدم قدرة الاقتصاد بِشَكلٍّ عام على تحمله؛ ظهر ذلك جليًّا في أرقام التضخم؛ وانعكاساتها على غلاء المعيشة؛ وهو ما دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للتأكيد على وجوب أن «يتوافق الإنفاق الحكومي مع قدرة الاقتصاد على تحمله».
خلال السنوات الماضية كان تركيز الإنفاق منصبًا على قطاع التَّعليم الذي يُعدُّ القطاع الإستراتيجي الكفيل بتحقيق التنمية المستدامة. فتطوير مخرجات التَّعليم يعني تحقيق الاستثمار الأمثل للإنفاق الحكومي على هذا القطاع. دعم برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، وزيادة عدد الجامعات والكلِّيات، ومعاهد التَّعليم التقني؛ إضافة إلى تطوير بيئة التَّعليم؛ والمناهج؛ يصب في قناة الاستثمار المعرفي؛ وبناء الإِنسان، وتجهيزه لسوق العمل؛ بطء مشروعات التَّعليم؛ وضعف مخرجاتها قد يقلل من كفاءة الإنفاق الحكومي على قطاع التَّعليم؛ وهو ما يستدعي وجود إستراتيجيَّة واضحة لتطوير بيئة التَّعليم؛ ومناهجه وأسلوبه الذي ما زال تقليديًا، وبعيدًا عن المُتغيِّرات التعليميَّة العالميَّة. أعتقد أن تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع ربَّما تكون التجربة الرائدة في التَّعليم؛ في جوانبه الثلاثة؛ البيئة؛ والمناهج؛ وآلية التَّعليم؛ وهي الأنموذج الذي يمكن أن تستفيد منه وزارة التَّربية والتَّعليم ويفترض أن يطبَّقَ في جميع مناطق المملكة وليس الجبيل الصناعيَّة فحسب.
التركيز على قطاع الصحة كان لافتًا؛ خاصة فيما يتعلّق بإنشاء المدن الطّبية المتكاملة؛ في جميع مناطق المملكة وخصوصًا المناطق الأكثر حاجة؛ وإنشاء المستشفيات والمراكز الصحية. الاهتمام بالصحة تجاوز القطاعات المدنية إلى القطاع العسكري الذي حظي قبل أيام باعتماد بناء مدينتين طبيتين في الرياض وجدة تابعتين لوزارة الداخليَّة.
خلال العام الماضي أسقط خادم الحرمين الشريفين قروض صيادي الأسماك؛ وتَكَفَّل بالسداد عن المعسرين؛ واستحدث آلية لدعم الباحثين عن العمل وكل ذلك يصب في مصلحة المواطن ولا شكَّ.
في قطاع الإسكان يأتي أمر خادم الحرمين الشريفين باعتماد 250 مليار ريال لبناء 500 ألف وحدة سكنية لمعالجة مشكلة الإسكان التي أصبحت ترهق كاهل المواطنين؛ إضافة إلى دعمه المستمر لصندوق التنمية العقارية؛ وصناديق الدعم الحكوميَّة الأخرى وعلى رأسها صندوق التنمية الصناعيَّة الذي أسهم إسهامًا مباشرًا في دعم القطاع الصناعي.
ومن أهم الملامح ذات العلاقة برفاهية المواطن؛ حرص الحكومة على بناء الاحتياطيات الماليَّة وبما يكفل إيجاد مصادر مستقلة لتمويل الميزانية في حال المُتغيِّرات العالميَّة وانخفاض إيرادات النفط؛ أكثر من 2.2 تريليون ريال يمكن أن تحقق الأمان والاستقرار المالي وبما ينعكس على حياة المواطنين ورفاهيتهم.
أجزم بأن رفاهية المواطن؛ التي تبحث عنها الحكومة؛ يمكن تحقيقها من خلال زيادة دخل الفرد؛ والقضاء على الفقر؛ وخلق الوظائف واستكمال البنى التحتية؛ ومشروعات التنمية؛ وتطوير الخدمات بِشَكلٍّ عام؛ إضافة إلى معالجة مشكلتي البطالة والإسكان؛ وهي أهداف تلتزم الحكومة بتنفيذها وتنفق عليها ميزانيات ضخمة؛ إلا أن الاعتمادات الماليَّة السخية تحتاج إلى جهود تنفيذيَّة ضخمة على مستوى الوزارات لضمان تحقيق المنفعة الكلية من ميزانية الخير التي يصرّ وَلِّي الأمر على التوسُّع فيها برغم الظروف المحيطة.
ميزانية الإِنْجاز لا الأرقام، شعارٌ أتمنَّى أن يضعه أصحاب المعالي الوزراء نصب أعينهم؛ فالدَّوْلة لم تقصر في الجانب الإنفاقي وهو ما تترجمه الميزانيات التوسعية للأعوام الماضية، والعام الحالي، ويبقى الدور الأكبر على الوزراء في تنفيذ مشروعات التنمية بكفاءة، ووفق جدولها الزمني. أهمية التنفيذ على حياة المواطن ورفاهيته دفعت خادم الحرمين الشريفين إلى مخاطبة وزرائه بقوله: (أيها الوزراء والمسؤولون كل في قطاعه: لا عذر لكم بعد اليوم في تقصير أو تهاون أو إهمال.. واعلموا أنكم مسؤولون أمام الله - جلّ جلاله-، ثمَّ أمامنا عن أيِّ تقصير يضرّ بإستراتيجيَّة الدَّوْلة) تقصير الوزراء والمسؤولين في إنفاذ مشروعات الدَّوْلة يؤثِّر سلبًا في رفاهية المواطن المستهدفة من قبل وَلِّي الأمر؛ وتضر بسمعة الحكومة؛ وتصور الميزانيات الضخمة على أنَّها أرقام تذكر ولا تُرى على أرض الواقع. ومن هنا يكون الإِنْجاز مقدم على حجم الميزانية.
أتمنَّى أن تركز ميزانية العام الحالي على الإِنْجاز والكفاءة والرقابة الصارمة لتحقيق المنفعة الكلية من الأموال المخصصة لمشروعات التنمية.. ما زلت أعتقد أن إنشاء هيئة استشارية عالميَّة مرتبطة بمقام رئيس مجلس الوزراء، تهتم بالتخطيط، اقتراح المشروعات، التصميم، تقييم التَكْلفَة، والإشراف، يمكن أن يحقِّق هدف الكفاءة والمنفعة الكلية من مشروعات الدَّوْلة.. المواطن البسيط يبحث عن الإِنْجاز والكفاءة وهو لن يحس بقيمة الميزانية ما لم يَرَ تحوّل أرقامها إلى مشروعات حقيقية على أرض الواقع.
لا يمكن التكهن بما ستأتي به السنوات القادمة، فالوفرة الحالية قد لا تتكرَّر مستقبلاً، لذا يجب أن يكون التركيز الأكبر على المنفعة الكلية، وجودة مشروعات التنمية، ومطابقتها للمواصفات العالميَّة التي توفر لها العمر الافتراضي الطويل؛ يجب أن يحقِّق الإنفاق الحكومي التوسعي الفائدة القصوى، وألا نسمح بهدر الأموال على مشروعات متدنية الجودة قد نحتاج إلى صيانتها أو إعادة إنشائها من جديد بعد مدة زمنية قصيرة.
أعتقد أن نموَّ الإيرادات؛ وتراكم الاحتياطيات الماليَّة يضعان الحكومة أمام تحدٍ كبيرٍ في اختيار الأسلوب الأمثل لاستثمارها وبما يحقِّق تنوّعًا مستقبليًا في مصادر الدخل. إيرادات النفط المرتفعة قد لا تستمر إلى ما لا نهاية؛ وهذا يعني أننا في حاجة إلى تحقيق الاستثمار الأمثل لمواردنا المتاحة؛ وبما يضمن تحقيق الأمن للأجيال القادمة؛ توسيع قطاعات الإنتاج وتنويعها قد يكون أحد الخيارات المتاحة للاستثمار الداخلي؛ كما أن الاستثمار في قطاعات الإنتاج العالميَّة؛ وفق التنوّع الجغرافي والإنتاجي؛ يضمن بإذن الله خفض مخاطر الاستثمار وتحقيق عوائد مجزية لميزانية الدَّوْلة. الاعتماد في تمويل الميزانية على الإيرادات النفطية بنسبة تقارب 92 في المئة يشكِّل خطرًا على الاستقرار المالي؛ خاصة في حال انخفاض أسعار النفط أو ضعف الطَّلب العالمي؛ أو تأثر الإنتاج بمتغيرات داخليَّة أو دوليَّة. تعزيز الاحتياطيات جزءٌ مهمٌ من إستراتيجيَّة مواجهة المُتغيِّرات المستقبلية؛ إلا أن استثمار تلك الاحتياطيات بكفاءة يحقِّق المنفعة المرجوة.
إضافة إلى ذلك فكفاءة الإنفاق تعني إِنْجاز مشروعات التنمية؛ واستكمال البنى التحتية وهذا سيساعد كثيرًا في خفض التزامات الدَّوْلة مستقبلاً؛ وسيجعلها أقل تأثرًا جرَّاء المغيّرات المالية. أتمنَّى أن تركز ميزانية العام الحالي على الإِنْجاز والكفاءة والرقابة الصارمة لتحقيق المنفعة الكلية من الأموال المخصصة لمشروعات التنمية. يفترض أن يقدم الوزراء خطة عمل لإِنْجاز المشروعات المطروحة، وأن يلتزموا بمدة زمنية محددة، وألا يسمح بإقرار مشروعات لوزارة لم تقم بإِنْجاز مشروعات السنوات الماضية لأسباب لا علاقة لها بالجدول الزمني المُقر سلفًا. وبدلاً من التعميم في إقرار المشروعات نأمل أن يوجِّه الإنفاق الحكومي للمشروعات المُلحة وعلى رأسها مشروعات الإسكان؛ الطَّاقة والمياه؛ المستشفيات والمدارس، وتنمية القرى والمدن الحدودية، ودعم إستراتيجيَّة مكافحة الفقر.
إسناد المشروعات التنموية الضخمة للشركات العالميَّة بات مطلبًا ملحًّا لضمان جودة المخرجات، ولوقف الهدر في المال العام، إضافة إلى تأسيس شركات عالميَّة للإنشاءات برأس مال سعودي أجنبي بشرط أن تكون المساهمة الأجنبية مقتصرة على شركات الإنشاءات العالميَّة التي يعهد لها بالإدارة وفق المعايير العالميَّة.
مخرجات مشروعات التنمية في الثماني سنوات الماضية تفرض علينا إعادة النَّظر في أسلوب التخطيط لإقرار المشروعات، التصميم، الإشراف، الترسية والتنفيذ وفق معايير أكثر دقة وعالميَّة تَضمَّن تحقيق الكم الأكبر من المشروعات بجودة عالية، وفي مدة زمنية قصيرة، وفق ميزانيات معقولة بعيدة كل البعد عن الهدر والمغالاة.
f.albuainain@hotmail.com