منذ أن جنحت المقاومة الفلسطينية إلى المؤسسة المدنية, وأنا خائف أترقب, والمقام لا يستدعي استعراض سلبيات خطيئة العصر, التي حوَّلت الصقور إلى حمائم. وكيف يتلبس المُتْرفون من أبناء الشتات الفلسطيني بزعامة المقاومين المساكين المَتْرِبيِّن, الذين يفترشون الغبراء, ويلتحفون السماء.
إنها اللُّعب القذرة, والتآمر الماكر, والغزو المنظم, التي زَيَّنَتْ للمغفلين تجميع الجهود في مؤسسة مدنية, تقدم اللِّسان على السِّنان.
تنظر بعين المشردين, وتمشي بأرجلهم, وتبطش بأيديهم, مُبَرِّرة وجودها, بأنها الموحدة لصفوفهم, المحددة لأهدافهم.
وما درى أولئك أن المؤسسة المدنية ستأتي المقاومة تنقصها من أطرافها.
ولم تكن تلك الدعاوي الكاذبة إلا خِدْعة, أطلقها الماكرون, وصدقها المغفلون.
وحين حصل ما حصل, لم يكن بُدّ من التفاعل معه, فذلك فعل النخب الفلسطينية بأيديهم, وخيارهم بمحض إرادتهم.
ولما يزل الخداع والتماكر ينسابان كالخدَرِ من ثدي اللعب الكونية, حتى بلغ السيل الزبى باعتراف المنظمة بالكيان الصهيوني, وحتىَّ أخذ (عرفات) (مناحم بيجن) بالأحضان, على مسمع ومرآى من العالم, وتحت رعاية ومباركة من دولة القطب الواحد.
ولما أسْقط في أيدي الممانعين, دُمِغوا بشهادة الأهل.
وهل بعد شاهد الأهل من شاهد؟
ثم جاءت الطَّامَّة الثانية بـ(علمنة) الدولة المنتظرة, انتظار الإمام الغائب في السرداب.
وهذا التملق الذليل لدول الاستكبار أفقد القضية التعاطف الإسلامي.
ليْس هذا ما أردت, فما مضى دَرُّ فارق ضرعه, ومن المُتَعذَّرِ رَدُّه, ولكنها شواهد سقناها, لترقيق الأنفة التي أتوقع أن من الفلسطينيين من ينطوي عليها, ظناً منهم أنها تُفَوِّت الحقائق على متجرعي مراراتها.
لقد قلت: بأن تجميع فلول المقاومة تحت مظلة المنظمات المدنية إجهاض لها, وتخذيل لعزماتها, حتى يأذن الله بنصر, لن يتحقق على يد المزايدين على قضاياهم المصيرية, وهو آت, فالله يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ولن يغلب عُسْرٌ يُسْرَيْن { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس .
فَسُنَّةُ التدافع والتداول قائمة إلى قيام الساعة, لقد ظل بيت المقدس بيد النصارى قرنا من الزمن, وما يئس المسلمون من عودته, وحين شاءت إدارة الله الكونية عودته, عاد على يد قائد مسلم غير عربي.
ما أريد الحديث عنه وفيه, لا يتعلق بتاريخ فلسطين, ولا بتقلبات الأحوال الفلسطينية, فذلك مفروغ منه, وهو أشبه بالمعاني المطروحة في الطريق, وما من قضية أفاض المؤلفون والمتحدثون والكتاب فيها كالقضية الفلسطينية, ومامن قضية أمْرُها في سفال كالقضية الفلسطينية, لا لشيء إلا لأن الناس كلهم أجمعون لم يقولوا كلمة الحق, ولم يُهْدَوا إلى الطيبب من القول, والفلسطينيون كلهم أجمعون لم يَخْطوا خُطْوة واحدة صحيحة في سبيل القضية.
قد أوصف بالمبالغة, وأتهم بالإحباط, وأدان بالتخذيل.
ولست -عَلِم الله- من ذلك كله في شيء, فأنا عربي مسلم أحب لأمتي العربية والإسلامية العزة والنصر والتمكين, ولقد تكون لي تصوراتي التي تختلف مع الأغلبية, اختلاف تنوع, لا اختلاف تضاد.
وسيان عندي عندما أبوح بما فِيَّ, أن يصدقني المتلقي, أو لا يصدقني, المهم أن أُبرِّئ ذمتي, وأن أقول ما أعتقد, غير هياب ولا وجل.
فيما تظل أبوابي ونوافذي مشرعة, لسماع الرأي الآخر, والأخذ بأحسنه, إذ لا يزال رأيي مشروع اقتراح, قابل للإلغاء, أو التعديل, ولكن بما هو مسنود بالبرهان القطعي.
والفلسطينيون في الشتات والمخيمات, وعبر الفصائل والمنظمات, ليست لهم كلمة ذات وزن, فهم أشبه شيء بـ(تيم) الذي يقول عنهم الشاعر:وَيُقْضى الأمْرُ حينَ تَغيبُ تَيْمٌ
وَلا يُسْتَأمَرُونَ وَهُمْ شُهُودُ
إلا أنهم يزيدون عن (تيم) بأنهم يتجرعون مرارات التصرفات الرعناء, فيما يستأثر المترفون من المسؤولين منهم بالأمن, والأمان, ورغد العيش, والرحلات المكوكية المتشبعة بأوفى (البروتوكولات).
والمُنَظّمةُ الأمُّ والمنشقون عليها من مختلف الفصائل التي تعرف منها وتنكر, يخوضون مغامرات قاصمة, تبعث على الشك والارتياب, وتزيد من احتقان الشعوب المضيفة للمخيمات أو اللاجئين, وتطفئ الحماس للقضية, وتحبط التفاعل معها.
وكيف يُسَلِّم عاقل لمتناقضات بادية العيان, ومقترفات لا يمكن احتمالها, فَمَعَ من يكون المسكونون بهمّ القضية؟ وكل طائفة تخوِّن أختها, وتتهم من شايعها بالعمالة, وتخذيل الشرفاء.
والراصدون للأحداث العربية, يعرفون المقترفات الواحدة تلو الأخرى, لقد ارتكب (ياسر عرفات) حماقات لا يمكن احتمالها, ولن تجد لها مخرجاً في القاموس السياسي, مع أن السياسة فن الممكن.
تمثلت بالاعتراف في الكيان الصهيوني, وفي شد عضد (صدام حسين) في مغامراته الطائشة, وفي إشعال حرب أيلول الأسود, وحروب لبنان التي سحقت المقاومة, وأذلت الشعب الفلسطيني.
وهل بعد (صبرا) و(شاتيلا) من مجازر؟
ومن بعد (ياسر) ماذا فعل (الحمساويون) من تصديع للوحدة, وتَفْريق للكلمة, وتحييد للعرب, وتمكين للفرس؟
ولئن كانت عواطفنا معهم, فإن عقولنا مع جمع الكلمة, ورأب الصدع, واحتمال الأذى, حتى يأذن الله بنصر من عنده.
وأخيراً ماذا فُعِل بالمخيمات في (سوريا), وَزَجِّها في أتون حرب مجنونة, لا تبقي, ولا تذر, أشعلها واحد من أبناء المخيمات, حتى لم يبق في مخيم “اليرموك” إنس ولا جان.
ومن المسلمات أنه ليس من حق الفلسطينيين, ولا من واجبهم الدخول في النزاعات العربية, لا بالقول, ولا بالفعل.
إن على الفلسطينيين أن يلتزموا الوحدة فيما بينهم, والحياد في القضايا العربية الساخنة, وأن يعرفوا أن واجب الغريب أن يكون أديباً, فهم ضيوف على الأراضي العربية, والضيف في حكم المُضَيِّف, وإن كان ثمة شجاعة, أو بطولة, فإن عليهم أن يحتفظوا بها لقضيتهم, فالنافقون بالآلآف من الأبرياء والمستضعفين في (الأردن) و(الكويت) و(لبنان) و(سوريا) وغيرها, من الأفضل أن يكونوا شهداء على أرض فلسطين.
لقد خسر المغامرون من زعماء المنظمات والفضائل بتصرفاتهم غير السوية مواقع كثيرة, ودعماً قوياً, وتعاطفاً إيجابياً, وأنفساً بريئة, ولم تعد قضيتهم كما هي من قَبْلِ المنظمة.
لقد كان العربي مليئاً بالحماس, والإقدام, والإخلاص لقضيتة فلسطين, وكانت القضية التي لا يعلو على صوتها صوت.
أما اليوم, وبعد أن دخل زعماؤها الّلُعب القذرة, فقد تحولت إلى حدث ثانوي (روتيني) يمر كأي حدث عارض, وذلك ما يتطلع إليه الصهاينة.
ولكيلا تتآكل القضية, وتصبح أثراً بعد عين, فإن على العقلاء من أبناء فلسطين أن يبتدروا أزمتها, وأن ينأوا بها عن الأحداث العربية العارضة, وأن يوحدوا صفوفهم وأهدافهم, وأن يقولوا لمن استثارهم ما قاله (عبد المطلب) لأصحاب الفيل:- (أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه).