لدى الكثير من الناس يقين أن ميزانيات المملكة الفلكية، وفوائضها الضخمة لم تكن ممكنة دون حرص خادم الحرمين الشريفين، أمده الله بالصحة وأطال في عمره، في الحفاظ على ثروات الوطن. فمنذ توليه دفة الحكم والدخل المعلن في تزايد، والميزانيات في نمو.
كما بدأ الناس يحسون بنوع من الضبط في السياسة المالية الكلية للمملكة، كل شيء معلن وكل شيء مكشوف. ولا ننسى هنا الدور المخلص للمسئولين عن هذه السياسات.
وقد خاطب خادم الحرمين الشريفين بعض الوزراء والمسئولين أمام المواطنين، قائلاً: الكرة في ملعبكم، ولا عذر لكم بعد اليوم. أي بما معناه نحن سنمنحكم أكثر مما طلبتم، فأنجزوا ما وعدتم وتعهدتم به في مشاريعكم. فالجهات المختلفة لدينا يخصص لها ميزانيات لا يحلم ولو بجزء منها أقرانها في الدول الأخرى، ولكن هل يكون الإنجاز في مستوى الطموح؟ أو حتى في مستوى الآخرين بميزانيات أقل؟ هنا هو مربط الفرس.
وفي كل عام تعلن الميزانية وتأتي غير مسبوقة كالعادة يزداد أمل الناس وطموحها في أن تتحقق إنجازات غير مسبوقة بمستوى الميزانية ذاتها، وأن تأتي الإنجازات وتكون كبيرة، ولكنها وللأسف أحيانا تكون دون الطموحات: مشاريع لا تطابق المواصفات، مشاريع غير مكتملة، مشاريع بها خلل إلخ. ولهذه الأسباب أمر خادم الحرمين الشريفين بهيئة للنزاهة تتابع مواضع التقصير وتتقصى الفساد. لتخيل الميزانية الوطنية على ضخامتها فلنتخيل ميزانية منزلية على صغرها. فلو وهب رب عائلة أبناءه مبلغا من المال ليصرفوا منه على بناء منزل، وليصرفوا منه على العلاج، والتعليم، والنقل، والغذاء لأسرتهم، على غير ذلك من الأمور؛ ثم اتضح أن أحد الأبناء الذي طلب مبلغ مليونين لبناء البيت أخذ المبلغ وصرف منه مليوناً واحدا فقط ونفذه بمواصفات سيئة ثم أسكن والده وأسرته فيه، ثم اشترى الآخر سيارات مغشوشة تم التلاعب بعدادها، وأخذ الثالث مبلغ العلاج وأنفقه على أمور تجميلية هامشية، والأخير سجل في مدرسة ودفع الرسوم الضخمة وأهمل في الدراسة ورسب. كيف يكون حال هذه العائلة؟ بائس بالطبع. وستسوء أمورها حتما، وسيعود الأبناء الذين بخسوا أبيهم في المستقبل ليبحثوا عن بيت يأويهم، أو علاج يعالجهم فلن يجدوا ذلك. كما ستكون سياراتهم متوقفة لكثرة الأعطال لأن صيانتها تكلف أكثر من قيمتها، ووضعهم الصحي صعب، وهلم جرا. وسيضيع مستقبل أولادهم وأحفادهم.
ولكن ما سيكون عليه الحال لو اتسم كل من الأبناء بالأمانة، وبذل كل ما يستطيعه لحفظ مال عائلته وإسعادها، سيعودون جميعاً ليجدوا بيتاً دافئاً، وراحة موفورة، وعلاجاً ميسرا، ووسائل نقل تكفل لهم قضاء حوائجهم. سيتسفيدون هم ويستفيد أولادهم وأحفادهم ليس فقط مما وفروه لهم من حوائج، ولكن أيضاً من زرع روح الإخلاص والأمانة لديهم التي ستزيد من تراحمهم وتوادهم.
نعيش اليوم فترة ذهبية، ولدينا دخل، ولله الحمد، كبير، ولدينا حكومة تنفق بسخاء، فليس لنا، كما قال خادم الحرمين الشريفين عذر في الإخفاق. ما نبنيه اليوم هو مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، فالإنفاق الكبير لا يعني الهدر، وزيادة المخصصات لا تعني محاولة الاستفادة منه بشكل شخصي. فالتحايل للاستفادة غير المشروعة من المال العام يتعارض تماما مع الروح الوطنية، ويضر بمستقبل من يقدم عليه ذاته، ومستقبل أولاده.
نحن اليوم في مرحلة تعزيز المكتسبات، مرحلة ضمان استمرار حياتنا في وطننا، في مدننا، في شوارعنا، في بيوتنا في مرحلة ما بعد النفط. ليس ذلك فحسب بل نريد حياة كريمة رغدة مع من نحب من أهلنا وذوينا، لا أن نضطر للهجرة والتغرب فيما بعد لا سمح الله، فالتاريخ لا يرحم، وسيحصد الإنسان غداً ما يقدمه اليوم، وليس للإنسان عدو أشد من الجشع، وقصر النظر. ولذا يجب أن نضع هذا الأمر نصب أعيننا عندما تناط بنا أمور تتعلق ببناء وطننا. الحكومة لا تستطيع، حتى ولو أرادت، أن تلاحق كل متمصلح، أو كل فاسد إذا ما بيت النية لذلك. وكل ما علا المسئول، وكبر المشروع، وكبر الفساد، زاد نزف موارد الوطن. وما يجب أن يلاحق الفاسد ويردعه قبل كل شيء ضميره وأخلاقه، وحرصه على مستقبله ومستقبل أولاده. فالوطن، بكافة فئاته كلٌ واحدٌ متكامل: مسئولون، رجال أعمال، تجار، معلمون، عسكريون، مدنيون، مواطنون وإذا قصرت فئة أو تقاعست أو فسدت أضرت بالبقية.
نعم هناك من هم في مواقع تمكنهم من الاستفادة من الميزانية أكثر من غيرهم، فهذا من طبيعة الأمور وضرورات الاقتصاد ومتطلبات البناء، ولكن ذلك لا يبيح لهم أن يستأثروا بها أو ينقلوها للخارج، بل هي تعني أن المسئولية عليهم مضاعفة لأن الأموال انتقلت من المال العام لهم ليستمروا في البناء والتشييد والتطوير، وعليهم تقع مسئولية توفير العيش الكريم لأبناء وطنهم الذين لهم حق أخلاقي في هذه الأموال، لا يمكن أن يغمطهم هذا الحق إلا من عَدِمَ الأخلاق الوطنية المطلوبة. ولكن وللأسف، وهذا أمر معروف، فالبعض منا يهدر الأموال في الخارج، حرمها عن وطنه، في أمور باذخة وتافهة، وهو يحسب المحيطين به معجبين به ويضحكون معه بينما هم في قرارتهم يضحكون عليه، ومن صغر عقله، ودنو همته.
في الدول التي نسميها متحضرة، حيث جمع الأموال أصعب بكثير مما لدينا، حيث لا توجد ميزانيات ببنود مفتوحة متاحة كمشاريع، وحيث الضرائب تقتطع جزءا كبيرا من الأرباح، يحرص رجال الأعمال على خدمة أوطانهم وعلى أن يتركوا وراءهم منجزات تخلدهم تفتخر بها أسرهم وأبناؤهم من بعدهم. وبعضهم يتبرع بغالبية ماله للصالح العام، فلا أحد يدفن بماله، أو يأخذه معه بعد موته عندما يحاسبه ربه على جمعه وإنفاقه، ولكن هذا المال يمكن أن يبقيه حياً بين الناس بحسن ذكره ومآثره. فلم نسمع أحدا يمجد رجلا لبذخه في صرفه، ولا بضخامة حسابه، ولا بكبر يخته، ولكن الجميع يتذكر من خلّف مستشفى باسمه، أو مركزا ثقافيا باسم عائلته، جامعة لمدينته أو بلدته، أو مصانع يعمل فيها أبناء وطنه.
عندما كنا صغاراً كنا نقرأ قصصا مترجمة، في مصر أو لبنان، أحد شخوصها شخص جاهل، بشع اسمه “أبو الذهب”، لا يحب إلا نفسه، وهمه الوحيد جمع المال بأي السبل حتى ولو كان ذلك بطرق الغش والخداع، لا يهمه ما يحل بالآخرين من كوارث ما دام هو يحصل على المال. ويقابله شخص آخر نبيل، محب للآخرين همه الإصلاح، والبناء، وكنا دائما نحتقر الأول ونعجب بالثاني. والقصص بالطبع تترجم للغات كثيرة وتلقى قبولا لدى شعوب مختلفة لأنها تصور مثلا وأخلاقا كونية، ما يراه كافة الخلق صراعا بين أخلاق للإنسان النبيل مع أخلاق الإنسان الوضيع.
فالميزانية في حد ذاتها مهما بلغت أرقامها لا تعوض عن همم رجالها، ولا تعني الكثير ما لم يتم استثمارها بإخلاص وعلى أكمل وجه.
بارك الله لوطننا بهذه الميزانية، وجعلها ميزانية خير وبناء وعطاء. ووفق الله مسئولينا في صرف بنودها على مسئولياتهم المختلفة بما يفيد الجميع، وأبعد عنها المتربصين من الفاسدين.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif