|
آرون ديفيد ميللر *
بعد سنوات من تركي العمل في الحكومة الأمريكية كتبت مقالاً في صحيفة (واشنطن بوست) تحت عنوان «محامي إسرائيل» وكان المقال جهداً مخلصاً لشرح كيف أن العديد من كبار المسئولين في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وأنا من بينهم كان لديهم ميل قوي للنظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي بعدسة إسرائيلية. وقد لعب هذا الميل لرؤية الأمور من منظور إسرائيلي دوره في فشل الجهود الدبلوماسية لإدارة كلينتون من أجل تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبخاصة قمة كامب ديفيد التي جمعت الفلسطينيين والإسرائيليين في يوليو2000. وكما كان متوقعاً فقد تم اختطاف المقال لخدمة العديد من الأجندات المختلفة وبخاصة أجندة منتقدي إسرائيل، حيث أبدوا حماساً قوياً لاستخدام وجهة نظري الضيقة عن إدارة كلينتون وتطبيقها على نطاق أوسع بإثبات أن أمريكا تضحي بمبادئها وقيمها ومصالحها في الشرق الأوسط من خلال الخضوع الأعمى والدنيء لإسرائيل وأنصارها في الولايات المتحدة.
وها نحن الآن في نفس الموقف بمناسبة عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث يظهر دائماً الأسوأ ليس فقط بين السياسيين ولكن أيضاً بين المحللين والنشطاء والمفكرين. والحقيقة أن المبالغات والهفوات تفرض نفسها بدرجة كبيرة على أي مناقشة تتعلق بإسرائيل واليهود والسياسات الداخلية للولايات المتحدة والشرق الأوسط. ومرة أخرى نسمع أن الرئيس الأمريكي سوف يندفع إلى حرب مع إيران من أجل إرضاء رئيس وزراء إسرائيل وحلفائه في واشنطن.
لذلك وقبل أن نفقد عقلنا الجمعي علينا أن نراجع بعض الأساطير والمفاهيم الخطأ التي ما زالت رائجة في أوروبا والعالم العربي، وفي الولايات المتحدة نفسها حول السياسات الداخلية الأمريكية والسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
وفيما يلي نرصد أبرز ست أساطير عن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية:
1 - البيت الأبيض أرض محتلة إسرائيلياً:
فكرة أن اليهود الأمريكيين وبالتواطؤ مع الحكومة الإسرائيلية وأحيانا مع الكنيسة الإنجيلية يسيطرون على السياسة الخارجية الأمريكية ليست خطأ ومضللة فقط وإنما أيضاً خطيرة. وتزداد خطورة هذه الفكرة مع الفكرة الأخرى التي تقول إن اليهود يسيطرون على الإعلام والبنوك والعالم كله. والحقيقة أن هذا تشويه للواقع ولكن له ظل من الحقيقة. فالوثائق التاريخية لا تدعم هذه المقولة والرؤساء الأمريكيون الأقوياء الذين كانت لديهم رؤية لحماية المصالح الأمريكية ودعمها فازوا بفترة رئاسة ثانية وحظوا بدعم جماعات الضغط المحلية.
لم يوجد رئيس أمريكي اختار الدخول في مواجهة مع حليف وثيق وبخاصة الرؤساء الذين يتمتعون بدعم داخلي قوي دون أن تكون لديه أسباب قوية وأهداف واضحة لهذه الحرب. فالرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر من 1991 إلى 1994 قررا حرمان إسرائيل من مليارات الدولارات بسبب سياساتها الاستيطانية عشية مؤتمر السلام الدولي في مدريد. وكان هدف الرئيس الأمريكي توجيه إشارة قوية تقول إن العرب والإسرائيليين في لحظة حاسمة وأن أمريكا معنية بهذا. في المقابل فإن حرب الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتينياهو بشأن تجميد الاستيطان لم تأت بأي نتيجة. ففي المرة الأولى كان التحرك الأمريكي مثمراً لأنها حرب ذات هدف واضح في حين أن حرب أوباما ضد نتينياهو لم تكن مثمرة لأنها كانت بدون رؤية إستراتيجية. لذلك فإن أوباما مني بأسوأ النتائج حيث أغضب كلاً من الفلسطينيين والإسرائيليين ولم يتمكن من ترتيب أي مفاوضات بين الجانبين ولا الحصول على تجميد للاستيطان الإسرائيلي. وانتهى المطاف بفشل أوباما ولكن لا يمكن اعتبار هذا الفشل دليلا على أن إسرائيل هي التي تدير واشنطن.
2 - العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تقوم على القيم المشتركة فقط:
منتقدو إسرائيل يعتقدون أن بدون سياسات داخلية فإن احتمال قيام علاقة خاصة بين أمريكا وإسرائيل يبدو ضعيفاً جداً، وفي الوقت نفسه فإن مؤيدي إسرائيل يفضلون الاعتقاد بأن تأثير هذه السياسات على العلاقات بين البلدين محدود للغاية. والحقيقة أن كلا الموقفين خطأ. فالعلاقة بين إسرائيل وأمريكا هي عبارة عن زواج فضولي قائم على القيم والمصالح المشتركة وكذلك السياسات الداخلية.
وبالطبع فالقيم المشتركة تأتي على رأس القائمة، ولا يمكن تصور استمرار هذه العلاقة الوثيقة بين واشنطن والقدس طوال هذه السنوات إذا لم يكن هناك إيمان شعبي واسع في أمريكا بأن المصالح الأمريكية تفرض دعم حليف ديمقراطي!
ولكن دعونا لا نخدع أنفسنا وكذلك لا يجب أن يخدعنا النشطاء في لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) وغيرها من المنظمة اليهودية في أمريكا، فبدون الدعم القوي من الجالية اليهودية الموحدة في لأمريكا لإسرائيل فربما لم يكن هذا الدعم الكبير من جانب الكونجرس لهذه الدولة. فمنظمة أيباك لا تهتم فقط بحشد الدعم لإسرائيل وإنما تقوم أيضاً بتحديد كيف يمكن للإنسان أن يكون مؤيداً لإسرائيل وضمان عدم انتخاب أي مسئول لا يتعاطف مع تل أبيب.
3 - جماعات الضغط (اللوبي) شر كامل:
يتم النظر إلى جماعات الضغط والمصالح باعتبارها شيئاً شنيعاً تعمل في الظلام من أجل اختطاف السياسة الخارجية الأمريكية. وعندما أشار دبلوماسي عربي سابق ذات مرة إلى أن الكونجرس مجرد كنيست (البرلمان الإسرائيلي) صغير لم يكن يسخر من النظام الأمريكي وإنما كان يشعر بالغيرة منه. والعرب الأمريكيون يتمنون لو أن لهم قوة منظمة أيباك.
والحقيقة أن السياسة الخارجية الأمريكية تتشكل من العديد من الأصوات والنفوذ والمصالح المتنافسة. ودعوني أوضح أنني لا أريد أن تسيطر الجالية اليهودية على السياسة الخارجية الأمريكية. كما أنني لا أريد ترك هذه السياسة لأعضاء الكونجرس ولا لمسئولي وزارة الخارجية. والحقيقة أن الأصوات المؤيدة لإسرائيل في أمريكا قوية لكنها لا تمتلك حق النقض (الفيتو) على القرارات الأمريكية.
4 - تأثير المستشارين اليهود على الرئيس:
هناك اتهام يواجهه الرؤساء الأمريكيون وهو أنهم يخضعون تماماً لنفوذ مستشاريهم اليهود. وأنا أتحدث عن تجربة شخصية. أنا أعترف بمنتهى الحرية أنني والعديد من المسئولين في إدارة الرئيس كلينتون وبمنتهى حسن النوايا كنا نتبنى المواقف التي تلبي الاحتياجات الإسرائيلية أكثر من الاحتياجات الفلسطينية خلال المفاوضات التي دارت بين الجانبين في الفترة من 1999 حتى 2000. والحقيقة أن تبني هذه المواقف لم يكن بسبب مستشاري الرئيس كلينتون الذين تصادف أنهم كانوا يهود ولكن لأن هذه المواقف كانت تبدو منطقية ومناسبة بالنسبة لرئيس غير يهودي لديه حساسية شديدة تجاه الإسرائيليين ولديه قدر كبير من التعاطف مع الفلسطينيين أيضاً.
ورغم أن بعض هؤلاء المستشارين عملوا مع الرئيس بوش الأب ومع وزير خارجيته جيمس بيكر فإن السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية في عهد بوش الأب وكلينتون كانت مختلفة تماماً. فالمستشارون لا يستطيعون توجيه السياسة الخارجية إلى وجهة لا يريدها الرئيس الأمريكي. فالرئيس وحده هو المسئول عن دراسة كل الاستشارات التي تعرض عليه والمقارنة بينها وصولاً إلى الخيار الأنسب.
أوباما ليس مدافعاً عن إسرائيل. وإذا كان أوباما اختار مثلاً عدم الدخول في مواجهة مع نتينياهو فإن هذا لا يرجع إلى مستشاره اليهودي الذي يصب الكلام في أذنه وإنما لأن له أجندته السياسية الخاصة وأولوياته أو لأنه أدرك أن المواجهة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي لن تقود إلى المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي يريدها. ففي إدارة أوباما تستطيع الإيمان بأن الرئيس هو الذي يقود كل شيء.
5 - عام الانتخابات سيدفع أوباما إلى محاربة إيران:
ربما سمعت مرات كثيرة أن سياسات سنة الانتخابات الأمريكية تقلص قدرة الرئيس على المناورة وتدفعه إلى البحث عن أصوات الناخبين وتزيد بدرجة كبيرة دور المصالح السياسية للرئيس في تحديد سياسات البلاد. والحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية هذا العام تركز على الاقتصاد. وعندما تدخل السياسة الخارجية إلى الحملة الرئاسية فإن الأمر سيتعلق بموضوع واحد وهو إيران. ومن الخطأ القول إن أوباما مندفع نحو الحرب مع إيران بسبب سنة الانتخابات سواء كان ذلك من جانب خصومه الجمهوريين أو الجالية الموالية لإسرائيل. بالفعل فإن أوباما صعد حربه الكلامية ضد إيران ولكن لا يمكن الجزم بأن هذه السياسة الرامية إلى تشديد الضغوط على إيران هي صواب أم خطأ. وربما تكون صواباً وخطأ في وقت واحد. والحقيقة أن الرئيس أوباما لا يفعل شيئاً بتسرع ولا بتهور ولا تحت الضغوط. فهو قائد نفسه فعلاً. ولما كان معروفاً عن أوباما أنه صاحب فكر ورؤية فإن أخر شيء يمكن أن يفكر فيه وهو يخوض انتخابات رئاسية ويقترب من الفوز بها أن يشعل حرباً في الشرق الأوسط. وأي ضربة إسرائيلية أو أمريكية لإيران سوف ترفع سعر برميل البترول إلى 200 دولار وهو ما سيشعل نيران الأسعار في الولايات المتحدة ويهدد الاقتصاد الأمريكي الهش وهذا بالتأكيد شيء لا يريده أوباما. ومهما كان ما أخذه نتينياهو من أوباما في لقائهما الأخير في البيت الأبيض فإنه بالتأكيد ليس الضوء الأخضر ولا حتى الأصفر لاستخدام القوة ضد البرنامج النووي الإيراني.
6 - باراك أوباما مؤيد لإسرائيل مثل كلينتون وجورج بوش الابن:
لا شك أن أوباما يفهم ويقدر العلاقة الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة ولكن أوباما ليس كلينتون وليس جورج بوش الابن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فكلينتون وبوش كانا محبطين من رؤساء وزراء إسرائيل خلال فترات رئاستهما لكنهما كانا أيضاً متيمين بهم (كلينتون متيم بإسحق رابين وبوش متيم بآرييل شارون). فقد كان الرئيسان متعاطفين تماما مع قصة دولة إسرائيل وبالتالي فقد كانا يسمحان لإسرائيل القيام بتصرفات تتعارض مع أهداف السياسة الأمريكية. والحقيقة أن أوباما أقرب إلى جورج بوش الأب عندما يتعلق الأمر بإسرائيل لكنه يفتقد إلى الرؤية الإستراتيجية التي كانت لدى بوش.
وحتى لو كان أوباما متعاطفا مع إسرائيل فإنه يخفي ذلك. ويعتقد نتينياهو أن أوباما رجل بلا شعور. ولكن مرة أخرى فإن الرئيس الأمريكي يستطيع خدمة عدد من القضايا. فأوباما يشعر أنه لا يحتاج إلى حب الإسرائيليين ولا حتى حب اليهود الأمريكيين. أضف إلى ذلك فإن رجلاً مثل أوباما، يفضل اللون الرمادي على اللونين الأبيض والأسود، يرى العالم المحيط بإسرائيل بصورة دقيقة أكثر وهو أمر يصعب على الكثير من الإسرائيليين واليهود الأمريكيين قبوله. فأوباما يرى أن لإسرائيل احتياجات أمنية مشروعة لكنها في الوقت نفسه أقوى قوة إقليمية. لذلك فهو يؤمن بضرورة تقديم الإسرائيليين تنازلات من أجل السلام.
وإذا أتيحت لأوباما الفرصة لإعادة صياغة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية فسوف يفعل. ولكنني أعتقد أنه لا يمتلك هذه الفرصة لأنه حتى إذا فاز بفترة رئاسة ثانية فسوف يواجه نفس مشكلات الشرق الأوسط وأوباما مقتنع أن الإسرائيليين والفلسطينيين هم السبب في فشل كل جهود السلام ولا يريد أن يدفع هو ثمن هذا الفشل.
* مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية
* * *
الكاتب في سطور
- آرون ديفيد ميللر محلِّل سياسي أمريكي متخصص في شؤون الشرق الأوسط.
- عمل في المجلس الاستشاري الأمريكي لمنتدى السياسة الإسرائيلي.
- خلال الفترة من 1988 إلى 2003 عمل كمستشار لستة من وزراء الخارجية الأمريكيين لشؤون المفاوضات العربية الإسرائيلية، حيث شارك في الجهود الأمريكية الرامية إلى التوصل لاتفاقيات سلام بين إسرائيل وكل من الأردن وسوريا والفلسطينيين.
- غادر ميللر الخارجية الأمريكية في يناير 2003 ليعمل كرئيس لمنظمة بذور السلام وهي منظمة دولية للشباب تأسست عام 1993م.
- حالياً يعمل باحثاً في السياسة العامة في مركز ويدرو ويلسون للدراسات بواشنطن منذ يناير 2006م.
- نشر ميللر كتابه الرابع بعنوان «الأرض الموعودة: بحث أمريكا المراوغ عن السلام العربي الإسرائيلي» عام 2008م.