كلما قرأت ما خلده الدبلوماسي العالم الموسوعي أبو بكر الباقلاني رحمه الله من المعارف والعلوم، وما قدمه من جهود في رسخت أمر الدولة الإسلامية ووثقت العلاقة بالجوار الإنساني، يقفز إلى ذهني صورة ثلاثي محنك من المعاصرين من مملكتنا الغالية، جمعوا بين الثقافة الرفيعة والحنكة السياسية، فكانوا بحق أمثلة للدبلوماسية المثقفة، قدموا للوطن وللثقافة الكثير، وسخروا أعمارهم لمنجزات علمية متميزة، وأعني بالثلاثي معالي الدكتور غازي القصيبي أسكنه الله الجنان، ومعالي الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام، وسعادة الدكتور محمد بن عبد الرحمن البشر سفير خادم الحرمين الشريفين في المملكة المغربية الشقيقة، متعهمها الله بالصحة والسلامة، والثلاثة عملوا في السلك الدبلوماسي، فكانوا متميزين بشهادة أرباب السياسة وأساطين الأدب، وهي أسماء بارزة في عالم المعرفة.
ولقد تيسر لي أن أحضر قراءة لمنجز الدكتور البشر عن «مآسي الأندلس»، قبل عام من الآن، وذلك بمدينة فاس العامرة حين انبرت مؤسسة الإرث الأندلسي لقراءة هذا السفر من قبل ثلة من المتخصصين الأكاديميين في التاريخ الأندلسي، وكتبت عقب ذلك في جريدة الجزيرة بعنوان: «الدكتور البشر ودبلوماسية التاريخ» وكان مما جاء فيه: «.. وقد سخرت مؤسسة الإرث الأندلسي لهذا الكتاب جملة من المتخصصين في الأدب والتاريخ الأندلسي الذين رسموا بيراعهم أجمل لوحة حملت اسم البشر صاحب الوجه المبشر، وبحضور شرائح متنوعة من الدبلوماسيين والمسؤولين والمثقفين الذين ملأوا القاعة، وللحق أيضاً فما من كلمة نطقوا بها أو نعت نعتوا به الكاتب أو ثناء على مضمون الكتاب إلا وقلت لا فض فوك ولا لثمت ريشتك أيها البشر فقد زينت صدر كل سعودي بأوسمتك رفيع، ووضعت تاج العز المرصع بالجواهر واللجين على هامة كل مثقف.. فما أعظم أن تجد ممثل وطنك يحتفى به، وبحضور ثلة من أرفع مثقفي البلاد والكل يتفق على سمو المكانة وعلو الهمة وإبداع الفكر السعودي والدبلوماسية السعودية.. «نعم كان هذا هو الشعور الذي ينتاب كل مثقف سعودي وهو يرى البشر يأتي إلى جوار الأندلس ليعرفهم بمآسيها..
واليوم وقد وقع تحت يدي المؤلف الآخر للبشر «مباهج الأندلس» الكتاب الذي يرسم البسمة ويرفع الهامة عالية مرة أخرى، وقد رسم البشر لوحة فنية أخرى نقش عليها بأحرف من نور صور حقبة مهمة من تاريخ عريق من الأخبار المبهجة التي شكلت حضارة رائعة وتاريخا مجيداً في الأندلس حتى كانت مجمعاً للعلماء، ومقصداً للباحثين، وهو ما يحتم على الأجيال قراءتها بدقة والرسم على منوالها باقتباس العلوم والمعارف ومن ثم الإضافة إليها كما فعل الأجداد العظام في الأندلس..
والدكتور محمد بن عبد الرحمن البشر غني عن التعريف، فلا مهتم بالثقافة في وطننا الغالي والوطن العربي إلا ويعرف البشر الذي تربى تربية دينية تحت أنظار وعلى يد أم كريمة حفظت القرآن الكريم وعوذت ولدها بآيات الذكر الحكيم في صغره وكبره فصانه الله من نزغات الشياطين، وحفظت رياض الصالحين لتسير به على درب ومنهج نبي المتقين، وهو الذي قضت الأحوال أن يأخذ قسطا من عمره في كنف خاله رئيس المحاكم في مدينة الطائف، وليتربى تربية حكيمة وليسجل تفوقا علميا تقدمه ليكون مهندسا زراعيا ومن ثم يحصل على الماجستير في الاقتصاد والدكتوراه في الإحصاء، وليعمل أستاذاً للاقتصاد الزراعي بجامعة الملك فيصل بالإحساء، كما عمل أميناً عاماً لمؤسسة الصوامع والغلال، إلى أن تعين سفيرا لخادم الحرمين الشريفين في الصين ومن ثم في المملكة المغربية، وهو الذي منحه الرب عشق الأدب،والشغف بالتاريخ، والولوع بالسياسة، ليكون كاتباً مبدعا في شتى فنون المعرفة،ينتقل من فن إلى آخر، ومقالاته المنشورة، ومشاركاته الثقافية، كلها تؤكد أننا أمام نابغة موسوعي، يغرف من بحر مخزونه الثقافي ليسقي من المعارف والعلوم كل باحث يريد أن يتطلع من نبعه الزلال، وهو ما دفع أحدهم ليعلق على مقال للبشر قائلا «البشر بتاع كله» أمر أضحك البشر نفسه ليعلق هو الآخر: لو علم الكاتب مراحل دراستي واهتماماتي لأدرك انه لم يكشتف جديدا» .. وللبشر مؤلفات عظيمة ربما أشهرها «حضارة الصين» ألفها حين كان سفيرا هناك، ومن ثم السفران العظيمان «مآسي الأندلس» و»مباهج الأندلس» كما أن له كتاباً بعنوان «كلمات لها معنى» وهذا الأخير مجموعة مقالات منشورة للكاتب.
من يقرأ للبشر «مباهج الأندلس» سيقرأ لغة أديب يحلق برقيه عالياً، وبعبارته السهلة الممتنعة، وروحه الشفافة، واختياراته الدقيقة المختارة بعناية، وكيفية تسخيرها لغاياته السامية العلية من مؤلَّفه، وسيدرك عظمة هذا الرجل ورؤيته الفاحصة الدقيقة، إنه ينقل الأحداث بصدق دون تبديل للوقائع أو تحريف لها، يقتنصها من أمهات كتب التاريخ التي اهتمت بالأندلس ككتاب المقتبس لأبن حيان، والذخيرة لابن بسامة، ونفح الطيب.. وقضاة قرطبة.. والبيان المُغرِب.. وغيرها من المراجع المعتبرة، ومن ثم يوظف تلك الأخبار التوظيف المبني على التدبر والتمعن، ليؤكد التأثير الكبير للحضارة الأندلسية على الحضارة الغربية، بل إن البشر يذهب أبعد من هذا حين يؤكد أن أسماء بارزة ممن قامت الحضارة الغربية على أيديهم كانوا ممن تعلموا في معاهد الأندلس وجامعاتها العريقة، وهو بهذا يثبت ما تؤكده الأخبار والآثار من إعجاب الغربيين بمعارف الأندلس الأمر الذي دفع بأعداد غفيرة من محبي المعرفة التوجه إليها من فرنسا والدانمارك وألمانيا وغيرها لغرض تعلم العربية وعلوم الإسلام ضمن بعثات علمية حرص الخليفة الناصر وابنه المستنصر على تأمين جميع احتياجاتهم من مأكل ومشرب وعناية كاملة مما يسر لهم مهامهم المعرفية..
وهنا يخطر على البال كتاب الملك جورج ملك انجلترا إلى هشام الثالث أمير المؤمنين في الأندلس الذي نصه كما نقلتها الكتب « من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام. وبعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان, ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات أشراف الإنجليز تتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة وحدب من اللواتي سيتوافرون على تعليمهن . ولقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص..من خادمكم المطيع الملك جورج ملك انجلترا ..
ولعل ما يميز البشر في مباهجه أنه ينظر إلى رجالات الأندلس نظرة واقعية بعيدة عن المثالية المفرطة التي تخرج الأحداث من سياقاتها أو من واقعيتها، فنجده لا يبرئ أحداً من النزوات والنزغات، بل يجعل الأمور في نصابها الطبيعي، ومن يستمع إليه في إحدى لقاءاته وهو يتحدث عن بعض القادة المحنكين الذين ربما شجعوا الجند لأداء مهامهم بشجاعة واستبسال بترغيبهم في الجمال والدلال والجواري الحسان والمال،ويعتبر أن هذه المغريات إنما تدخل ضمن الخطط كي يطمع المقاتل فلا يتراجع..
إن من يقرأ مباهج الأندلس ويدنوا من القامة العلية للدبلوماسية المحنك يدرك فكره المعرفي الوقاد، وسيغوص مع البشر بالتأكيد في بحور التاريخ ليلتقط الدرر واللجين، وليزين بها هامته، فالكاتب مؤرخ لبق، وسيد للدبلوماسية اللَّبقة.
(*) أكاديمي سعودي