الأحساء - خاص - بـ»الجزيرة»:
أجمع عدد من الأكاديميين والمتخصصين في الثقافة الإسلامية، والعلوم الشرعية على أهمية استخدام أدوات جديدة في التعامل مع المسائل والفتاوى الشرعية، وتبسيط الأدوات الشرعية لعامة الناس حتى يستطيعوا فهم الأحكام الشرعية تجاه مختلف القضايا التي يعايشونها سواء في جوانب العبادات ونحوها من المسائل الشرعية أو تجاه مسائل حياة الناس اليومية الأسرية والفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.. محذرين من سلبيات غياب المنهجية الشرعية وأثرها في قدرة عموم الناس على فهم المسائل والفتاوى الشرعية.
سعة العلم ودقة المعرفة
في البداية قال د.عبداللطيف بن إبراهيم الحسين رئيس وحدة البحوث وأستاذ الثقافة الإسلامية المشارك في كلية الشريعة بالأحساء: إن التعامل مع الأزمات الفكرية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى- يحتاج إلى العلماء المشهود لهم بسعة العلم ودقة المعرفة وسلوك الورع ومعرفة الواقع ومقاصد الشريعة، ولا شك أن أمثال هؤلاء العلماء هم أقدر الناس على توضيح الأمور الشائكة والنوازل المستجدة، مع التعاون مع ولاة أمور المسلمين فيما يخدم المصالح الكبرى للأمة.
ولا شك أن المنهجية في طلب العلم خير معين من المزالق التي قد توقع للمرء في الهلكة، مع التقوى وخشية الله، وكما قال ابن القيم رحمه الله: لا بد للسالك من علم يبصره ويهديه، ومن تقوى تسيره وترقيه. وكما قيل عن مجاهد وغيره: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله تعالى.
والمقابل فإن القفز على المسلّمات الشرعية، والخوض في كل مجال وعلم وفن، مع حب التصدر والظهور والبروز، والإغراءات المالية في ساحة الفضائيات.. كل ذلك من الفتن والأخطار الكبرى على الأمة، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ}، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم: «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بُدَّ أن يقول على الله تعالى غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه».
ولأجل هذا يجب أن تحمى الشريعة من أدعيائها ومتعاليميها! وأن تحال الفتوى إلى أهل الاختصاص والدراية والأمانة. فقد كان الصحابة الكرام ومن بعدهم العلماء السابقون يتدافعون الفتيا، ويخشون الإجابة على المسائل، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى تعود إلى الأول.
وربما أحاط أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية، لكن لا يعنى ذلك القدرة على البحث والاستنباط في مسائل العلم الشرعي، وبحسب أصحاب التخصص التجريبي الإبداع في تخصصاتهم، وإفادة الأمة الإسلامية التي أحوج ما تكون إليهم في مجالهم، وكل ميسر لما خلق له، ومن أمثلة ذلك: اشتغال جمع من أصحاب التخصصات في العلوم التجريبية بساحة التخصص الشرعي، وتطاولهم على كتب السلف في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وأصوله وغيرها..، فوقعوا في مزالق خطيرة، ولا يشك في حسن نية بعض الباحثين والدارسين، لكن لا يكفي المرء قراءته للكتب الشرعية ليصبح في عداد العلماء المتخصصين في الشريعة، بل لا بد من العكوف على سؤال العلماء، والإفادة منهم في فهم المراد من النصوص الشرعية، والإلمام بدقائق العلم الشرعي وآلته والقدرة على النظر في الأدلة الشرعية ومعرفة مظان الأحكام الشرعية في مصادر الشريعة،، أُثِرَ عن الإمام أحمد بن حنبل- في رواية ابنه عبد الله قوله: «إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير فيقضي به، ويعمل به، حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به، فيكون يعمل على أمر صحيح.
وأحسن الإمام الشافعي إلى التنبيه على أهل العلم بضبط أصول العلم وأدواته قبل الشروع في الفتوى، إذ قال: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيرا بالشعر، وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي.
وما أجمل قول الشاعر في هذا:
متى ما أتيت الأمر من غير بابه
ضللت وإن تدخل من الباب تهتد
وضع منهج شرعي مسير
أما د. ناصر بن عبدالله الودعاني وكيل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في الأحساء فقال: إنّ الواضح الجلي أنّ الهدف الأسمى من إثارة هذه المسألة هو محاولة وضع منهج شرعي ميسّر يتمكن به عامة المكلفين من فهم مسائل الدين والفتاوى الشرعية أولاً، ثم ضبط مشاركاتهم الرشيدة في مناقشتها والحوار حولها ثانياً، من خلال جمع أمثل الوسائل وأنسبها لحالهم. وأحسب أن مثل هذا المشروع لا بد له - بعد توفيق الله تعالى وتيسيره - من تأمل طويل وفكر عميق ونقاش جماعي بين عدد من المختصين والمهتمين، والظن أن المقام لا يناسب طول النفس، والجهد لا يسعف إتمام المراد، ولكن ذلك لا يمنع من أن أشارك هنا بتسجيل بعض الحروف والكلمات لعلها تساعد في تنفيذ هذا الهدف النبيل فأقول وبالله التوفيق:
مما يعين العلماء وسائر المكلفين على فهم الشريعة وما يصدر حول مسائلها من فتاوى ألا يغفلوا عن القواعد المهمة التالية:
القاعدة الأولى: كمال الشريعة أكد ربنا سبحانه هذا الأصل العظيم بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}، فرسالة النبي - عليه الصلاة والسلام - عامة لكل ما يحتاج إليه الناس في علومهم وأعمالهم، مثلما يقول ابن القيم: لرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعمومٌ بالنسبة إلى كلِّ ما يَحتاج إليه مَن بُعث إليه في أصول الدِّين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً وعلمهم كلَّ شيء حتى آداب التخلِّي وآدابَ الجماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت. وبناء على هذه القاعدة لا يظن أحد أن في شريعتنا نقص يحتاج إلى تكميل، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر وهو الضلال المبين. وكان من المتحتم الاكتفاء بما وفق الله تعالى له أصحاب نبيه - عليهم الصلاة والسلام - الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد.
التوحيد أولاً
القاعدة الثانية: التوحيد أولاً: مما ينبغي علينا جميعاً الاهتمام به وتقديمه على كل مهم هو الاهتمام بدعوة التوحيد وهو معنى قوله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، وقد جاء في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الوارد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: ((ليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم...)) الحديث وهذا يدل دلالة قاطعة على أن البدء بالتوحيد أولاً ثم التفصيل لأحكام العبادات والمعاملات.
القاعدة الثالثة: القرآن الكريم والسنة المطهرة هما المصدران الأساسيان للتشريع وما عداهما من الأدلة فعائد إليهما فالتمسك بهما فهماً وعملاً سبيل فهم الشريعة كلها.
القاعدة الرابعة: الإسلام دين الفطرة، فحاجة الإنسان إلى عبادة الله سبحانه مركوزة في نفسه مصداق ذلك قوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مولود يولد على الفطرة)) وقد توصل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بفطرته السليمة إلى عبادة الله وحده فيما حكاه القرآن الكر يم في سورة الأنعام. وتتجلى هذه الفطرة فيما تحققه هذه الشريعة من تكامل بين الروح والجسد وتيسير وسهولة لا عنت فيها ولا حرج. وهو أصل عظيم يمكن به التعرف على ما ليس من الإسلام مما خالفه.
القاعدة الخامسة: الدعـوى بلا دليل باطلة والفتوى بلا مستند شرعي ساقطة يقول الله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، فمصداق قبول الدعوى دليلها، ومعيار قبول الفتوى مستندها الشرعي، فإنها حكم شرعي تدور مع الدليل وجوداً وعدماً ولا يعول على فتوى عرية عن ذلك لأنها مجرد رأي الرجال، ولا ينبغي تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي مثلما يقول الشاطبي في الاعتصام وهي وسيلة نافعة لكل من أراد معرفة أهل الحق والتمسك بالنص من أهل الابتداع وتحكيم الأهواء والجهل.
القاعدة السادسة: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، آية كريمة حذرت من الجرأة على إصدار الفتاوى بلا علم راسخ ولا دليل ثابت، ولهذا جاء قوله سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}، فتجاوز الحد بإصدار الأحكام وتكفير الناس أو تفسيقهم بغير علم ولا هدى ضلال مبين.
القاعدة السابعة: الإسلام دين الوضوح والبساطة والسهولة وترك التنطع والتكلف. كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية:((تركتكم على مثل البيضاء - وهي الشمس - ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) وقد جاءت شريعة الإسلام خاتمة لكل الشرائع قبلها صالحة لكل زمان ومكان، وقد أكمل النبي صلى الله عليه وسلم بيانها وتفصيل أحكامها ونشرها والدعوة إليها والجهاد في سبيلها في مدة لم تتجاوز ثلاث وعشرين سنة وتخرج على يديه الشرفتين عدد كبير من العلماء بها في وقت أقصر من ذلك بكثير كمعاذ - رضي الله عنه - الذي لم تدم مدة تعلّمه طويلاً صار بعدها أعلم الأمة بالحلال والحرام وعن أبي مسلم الخولاني قال: أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، قال: قلت لجليس لي من هذا؟ قالوا هذا معاذ بن جبل.
لكن الناس بعد غيروا وبدلوا فتفرقت بهم السبل حتى أصبحوا طوائف وفرق وانفرد كل طرف من أهل العلم بجزء منه وتعمقوا فيه وفصلوا وشققوا وزادوا فيه حتى استلك أوقاتهم واستوعب حياتهم العلمية والعملية وكثرة التفصيلات التي ما أنزل الله بها من سلطان وتناسوا أو نسوا بما وصفنا به معلمنا الأول عليه الصلاة والسلام من أننا أمة أمية مبنى ديننا على السهولة وترك التكلف والتنطع وليكن شعار من يفتي فيما لم يرد فيه منع صريح ما أرشدنا إليه حبيبنا - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع لكل من سأله بقوله: افعل ولا حرج.
وأرى أنه لا خروج عن هذه الدائرة إلا بالرجوع إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة في استعمال السهولة في الفتوى والتيسير المبني على الدليل الشرعي. وربط الناس بالآية والحديث في كل ما يصدر عنهم لزيادة تعلق الناس بخالقهم وشرعه القويم لا بالعالم والمفتى وترك استعراض العلم والتكلف في إظهار المعرفة وسرد ما لا حاجة إليه بقصد بيان التفوق والكف عن التنطع في الأجوبة وتفصيل ما لا حاجة للسائل به مستلهمين القدوة من سلف الأمة والصالحين من خلفها.
وعلى السائل أن يقصد في سؤاله الحرص على تطبيق شرع الله دون تتبع الرخص وما تهواه نفسه بكثرة تكرار ما يسأل عنه لأكثر من عالم ومنتسب للعلم حتى يجد ما يوافق هواه بل عليه أن يسأل ما غلب على ظنه أنه من أهل العلم والتقوى ثم لا يسأل غيره والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
عرض المسائل
ويشير الشيخ محمد بن إبراهيم الكلثم المعيد في كلية الشريعة بالأحساء إلى بعض الأسباب التي أدت إلى ظهور الظاهرة المذكورة، ومنها:
1 - الحضارة وتطور وسائل الحياة تطورًا كبيرًا، فلم تعد حياة الناس ومسائلهم بسيطة كما كانت، بل غدت مركبة من قضايا في علوم مختلفة، بل إن المفتي ليتوقف في العديد من المسائل ليسأل أهل تلك الفنون عما داخل مسألته من قضايا تختص بفنهم.
2 - انتشار المعارف الإنسانية والتجريبية في البلاد الإسلامية، ففي السابق كان أفراد المجتمع ينقسمون إلى قسمين بشكل عام:
القسم الأول: العلماء، وأكثرهم من علماء الشريعة وما يتعلق بها، مع وجود علماء في الطب والفلك ونحو ذلك.
القسم الثاني: عموم الناس، وهم الأكثر، وكان شغل أكثرهم في التجارة والصناعة والزراعة والرعي والصيد، وإن درسوا في الكتاتيب في صغرهم بعض العلوم الأساسية.
وفي هذا العصر انتشرت تلك المعارف في المجتمع، فقل أن يخل بيت من طبيب أو مهندس أو مدرس في فن من الفنون كالرياضيات أو الفيزياء أو علم النفس أو علم الاجتماع ونحو ذلك.
3 - التشويش الحاصل من البيئة المحيطة، فمنهم من يزعم أن تلك قضايا علمية لااختصاص للشرع بها، ومنهم من يزعم أن النظر في تلك القضايا للعلماء فقط دون فصل وتمييز وبيان.
إن ما تقدم من أسباب وغيره أدى إلى ظهور مسائل متداخلة تتجاذبها العلوم من أطرافها، أو جعلت من هذه المسائل مثارًا للنقاش والحوار بحق أو بباطل.
ويضيف الكلثم أسباب أخرى ومنها:
1 - الفجوة الاجتماعية، ففي السابق كان أبناء المجتمع الواحد متقاربين متداخلين، يعرف بعضهم حال بعض، ويجتمعون بمن فيهم من جاهل وعالم، ويرجعون عند ورود المسائل إلى من عندهم من العلماء وطلاب العلم، وفي هذا العصر عصر التمدن ضعفت صلة كثير من العامة بالعلماء وطلاب العلم.
2 - انتشار وسائل الاتصال والإعلام التي نقلت للناس الأقوال الكثيرة في المسألة الواحدة، فيسمع من في المشرق الفتوى التي أفتى بها عالم المغرب، وأيضًا ظهر فيها العالم والجاهل، والعدل والفاسق، والسني والمبتدع، فتلقى الناس ما عندهم من حق وباطل وأشكل عليهم التمييز.
أن ما تقدم من أسباب يبين بعضًا من أسباب استشكال الناس عموما وحتى المتدينين منهم عددًا من المسائل الشرعية، لاسيما المركبة المتداخلة مع فنون أخرى.
الوسائل المنهجية
ويبيّن الكلثم الوسائل المنهجية التي تعين العامة على فهم المسائـل الشـرعية - فهمًا يناسب حالهم - وإدارة النقاش حولها بما يلي:
1- تعلم ما لا يسع المسلم جهله، فالداء الحقيقي كامن في الجهل، وحيث أنه لا يمكن أن يطلب من الناس الانصراف إلى العلم وترك معاشاتهم ومصالح الناس، طُلب منهم بعضًا مقدورًا عليه، وهو أن يتعلموا الأمور الأساسية التي يحتاجونها في أمر عباداتهم ومعاشهم، ولو ضم إلى ذلك تعلم قدر يسير من المسائل العلمية الخلافية لكان حسنا، وذلك لكي يعي الخلاف بين العلماء وتداخل المسائل بين العلوم وعيًا عمليا، فإذا وردت عليه مسألة بعد ذلك قاس عليها ما مضى قياسًا إجماليا في كيفية التعامل معها.
2- الارتباط بالعلماء، وحضور ما أمكن من مجالسهم، والاستفادة من علمهم وطريقتهم، وسؤالهم عما أشكل.
3- سلامة القصد،فإن ساءت نيته،وداخل قصده دخن لو أوتي من مفاتيح الحق ماينوء كل باطل عن رده، لأقبل وأدبر، وعاند وتكبر.
4 - الثقة بالمصدر، والمراد أن تحصل الثقة بقول القائل، فيوثق بالقول عنه وبه.
أما حصولها عنه فيتثبت أن يكون ذلك العالم قد قال هذا القول فعلاً، لا أنه قيل عليه، أو فهم منه خطأ، فقد يقول المجتهد القول لحالة مخصوصة، ولا ينص على ذكر هذه الحال المخصوصة ؛ لكونها ظاهرة في حال السائل مثلا، فيظن من لم يتفطن للسائل وحاله أن قوله هذا عام في الأحوال كلها.
وأما حصول الثقة به فبأن يكون:
أ) عدلاً ؛ لأن من كان فاسقًا لا يعتد بقوله في حق غيره ؛ لأن الله أمرنا بالتثبت من قول الفاسق كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}.
ب) عالمًا، لأن الله أمرنا بسؤال أهل العلم عما لا نعلمه، كما قال سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، فمفهومه أن غير أهل الذكر لا يسألون، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فالذين يعلمونه هم أهل العلم والاستنباط.
5 - عرض المسألة على أصول الكتاب والسنة، وليس المراد عرضها على جميع الكتاب والسنة، فإن منهما ما لا يعلمه إلا العالم، فمنهما النص والظاهر، والمنطوق والمفهوم، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك مما لا يدركه آحاد الناس، والمراد بالأصول هنا: ما جاءت الأدلة المتوافرة على إثباته وتقريره، كتنزه الله عن النقائص ووصفه بالصفات العليا، وشرف حال النبي صلى الله عليه وسلم وبعد عن المنكرات، وحل الطيبات، وتحريم الخبائث، والأمر بالعدل، والنهي عن الظلم، ونحو ذلك.
6 - فهم طبيعة المسائل هل هي مسائل منصوصة لا يسوغ فيها إلا إتباع النص، أو هي مسائل اجتهادية؟
7 - فهم طبيعة الخلافات العلمية، فمن الخلاف خلاف صوري لا حقيقي، كخلاف التنوع، وهذا كثير في التفسير، ومنه الخلاف في أفراد المسألة لا في أصلها وهو ما يعرف بالخلاف في تحقيق المناط، ومنه خلاف ناشئ عن اختلاف الزمان والمكان لا لاختلاف الدليل والبرهان، ومنه ما منشأه أسباب علمية، وقد ذكر العلماء ذلك في كتب أسباب الخلاف، وجميع ما تقدم سائغ، غير أن منه ما ليس بخلاف في حقيقة الأمر.
ومن الخلاف ما منشأه إتباع الهوى، وهذا ظاهر في كثير من الخلافات العقدية، ومن إتباع الهوى إتباع رغبة السلطان، أو رغبات الناس، فالعالم الحق إنما يتبع الدليل الصحيح من الكتاب والسنة.
فوعي المرء بطبيعة الاختلافات العلمية تعينه في فهم بعض ما يشكل عليه من قضايا وإشكالات تتعلق بالمسائل الشرعية.
8 - التأكد من سلامة الفهم لاسيما عند الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو الكتب الشرعية القديمة، فاختلاف الأعراف والاصطلاحات يورث لبسًا في الفهم عند كثير من الناس.
وفي الختام أوجه رسالة إلى طلاب العلم بأن يستوعبوا الناس بعلمهم وحلمهم، وأن لايبخلوا عليهم بوقتهم.