|
تأليف: الدكتور ابراهيم بن عبد الرحمن التركي
قراءة: حنان بنت عبد العزيز آل سيف - بنت الأعشى
طبعة العبيكان - الرياض - الطبعة الأولى 1424هـ - 2003م
في بلادنا المملكة العربية السعودية طاقات نيرة، ومواهب فذة في مختلف المجالات من علمية وسياسية واجتماعية واقتصادية وأدبية، وما يعنيني في هذه العجالة إلا تلك الطاقات الأدبية التي أخذت في متابعة سير الحركة الأدبية والثقافية في بلادنا العامرة، هذه المتابعة جاءت صورة صادقة وواقعية عن فحوى وماهية المقالة في الأدب السعودي الحديث.
إن هذه الطاقات الأدبية هي باقة ورد فائحة بالعطر والشذى والأريج، وهي إسهام فعال في تاريخ المقالة السعودية في هذا الوطن المعطاء، هي وجه من وجوه الأدب، وعملة من عملات الثقافة، وهي أنامل قديرة كتبت وأنتجت وأحيت وأفادت.
في تاريخ المقالة السعودية صفحات لامعة مشرقة، كتبها أفذاذ من بلادي، كتبوها بعلم فيسر، ودم متدفق وصبر ومصابرة وجلد ومجالدة وتوثب ومثابرة، فإذا بهذه الصفحات تأتي أقلام ترسم الأدب، ورايات تخط الفكر، وعقليات تفكر وتحلل وتراقب وتنتج، ولعل الكتاب الذي أسلفت لك عنوانه يجيء خير شاهد على قولي هذا فهو رمز نير من رموز الكتب التي تعنى بجمع المقالات المتناثرة والمتفرقة في كتاب يلم شعثها ويحفظ متنها، ويطرب قارئها، ويؤنس الناظر فيها، يقول الدكتور القدير: إبراهيم بن عبد الرحمن التركي - يحفظه الله - في مطلع كتابه ما نصه:
(اعتاد أن يقدم ولم يرغب أن يقدم... لا يستغني كما لا يدعي وهاجسه أن تظل حروفه في العراء دون غطاء أو احتفاء لقد قالها وبقي من يقيلها) بهذه الكلمات القليلة افتتح الدكتور إبراهيم التركي كتابه هذا، ومن خلال قراءتي في الكتاب أجد المؤلف قد جاء محدثاً لبقاً لم يقل هباءاً منثوراً بل برهن على مستوى الوعي الثقافي والأدبي الذي وصل إليه الكاتب السعودي فالتركي حسبي به أنه سفير أدب وثقافة مثل الأديب السعودي ورفع رأسه مفتخراً.
ومن طريف حديثه ومطرب قوله ما جاء ضمن المقالة المعنونة بالعنوان الظريف وهو: (ضمير في مساء الوهم)، ما نصه: (أشار أو جبرن إلى ظاهرة التخلف الثقافي وعزاها إلى التناقض الذي يعيشه الانسان مع مجتمعه أو وجوده أو عالمه، فما يجعله رهناً لأنماط متضادة من التفكير والتقرير، وهو بذلك مضطر إلى تصرفات لا يؤمن بها، تقوده وغيره إلى تفرق يخلص منه نفر إلى مواقف إيجابية نحو إعادة بناء أنفسهم وثقافاتهم، وينكفئ الأغلبية على ذواتهم ليظهر الصراع في دواخلهم، ويجدون متنفساً حين يعشى الرقيب أو تغيب القيم في مجتمعات أخرى أو مع جماعات متمردة أو رافضة)، ويفتتح المقالات بعنوان رمزي، وتحته عبارة توحي بلب المقالة.
والعناوين جميلة داعية إلى التفكر والتأمل ومنها: (مسافات في هوامش السلطة) وجاءت العبارة التالية تحته: (النظام يخلق حضارة دون أن تدعمه سلطة، والفوضى سلطة دون حضارة، والإدارة شهادة على ما يمكن أن يكون)، كذلك عنوان جميل آخر فحواه: (فصل في كسور المثقف) وتحته العبارة التالية: (تتشابك عوامل الفرز والتحليل فلا تدير أين يكمن الحق).
هذا ويطرق الكتاب الجانب الشعري، ويأتي به إما نظماً أو استشهاداً، فهو يأتي بالشعر على شكل مقطوعات شعرية فيها التغني بفضائل القيم، ومفاخر المثل، والمبادئ الذي يمثل فيها ناظمها الوفا والحضور الجميل، وقد اخترت لك يا قارئي الكريم الأبيات التالية المنظومة للأديب التركي، والتي جاءت على طريقة الشعر الحديث المرسل والتي يقول فيها:
أستميح الشعر إن فرت حروفه
وأناجي الهجر ما لاحت طيوفه
ضاقت الأرض بمن كلت سيوفه
فالهوى لون الغوي
والدوا طعم النوى، كذلك من مؤثر هذه الأبيات:
اليوم
إن الصمت
ما عاد الصدى
يقوى
على فهم الكلام
اليوم
تاه الفجر
لم يسع الدنى
مرأى الحياة
تدب في عمق الظلام
اليوم
مر العمر
لا تدري هل التسعون
كالعشرين
الساعون
كالغافيس
والأحلام
للمستيقظين أم النيام؟
الكتاب يفصح عن المستوى الرفيع في الأدب الذي وصل إليه الأديب إبراهيم بن عبد الرحمن التركي في تذوقه للمتنبي ومظفر النواب وغيرهما، كذلك في تذوقه لنثريات الأدباء الغربيين، جاء بها وساقها مساق المثل، ومن هؤلاء الأدباء (وول سينيكا، جاك بريف، فتجنشناين).
ومن هذه العبارات على سبيل التمثيل لا الحصر: (الشخصية المتكاملة تحتوي على ثلاثة أنظمة ئيسية الـ(هو) (الأنا والذات) (الأنا الأعلى) كذلك: (يجب أن نظل قادرين على الاعتراف بأن الأمور هي بدون أمل، وأن نظل مصممين على الأقل أن نعمل لكي تسير الأمور بشكل مختلف)، وأما ما جاء به على وجه الاستشهاد فقد اخترت لك الشواهد التالية، والنوادر اللامعة الآتية، ومما جاء فيها على لسان الجواهري ونصها:
قالوا أتعرفه؟ فقلت وكنهه
عرفان نور الشمس بالآلاء
ولرب أرواح تذيع صفاتها
حتى وإن عريت عن الأسماء
وعلى لسان المتنبي قوله:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أطويل طريقنا أم يطول؟
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
ويحكي لنا الكتاب عمق تجارب المؤلف في فن الإدارة، فهو قد وطن نفسه على حبها، وانتشى بذكرها، وساق أمثلة كثيرة عليها، وهو يصور لنا صورة التركي الإدارية الحسية حيث يقول: (يؤمن النموذج الياباني في الإدارة بأهمية الانتاجية ويرى أنها لا ترتكز على الرواتب والمكافآت والحوافز بمقدار ما يتم ذلك من خلال معرفة أسلوب إدارة الأفراد، مما يحقق روح الجماعة والفاعلية).
وأخيراً..
هكذا يترك الأدباء آثارهم النيرة، وهي ملء العين والقلب، وهكذا جاء الدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي في كتابه هذا، وستبقى آثاره ملأى بالأيادي البيضاء المعطاء، وحقها علينا التقدير والاحترام والإشادة.
هذا كتاب سعودي تتعطر القريحة بذكره، وهو تأكيد لمستوى الأدب السعودي الجيد، ومنزلته الرفيعة، فهو يحمل بين جنباته الأثر الفاعل، الذكرى الجميلة.