(بين عشية وضحاها) إن لم يكن كما غمضة عين وانتباهها بآن من أعلام أسرتنا.. وفقدنا أثرها نيرين، وسبحان الله كأنه اتفاق في مناياهم عجيب.. حدث!
الأول مقام العم العلم الشيخ يوسف بن محمد المطلق الذي سبق وتشرف قلمي أن كتب عنه حين جاوز قنطرة قدره، وإلا.. فقد قال الذهبي (لا يكتب عن الأئمة إلا إمام)، أي يكون بمقامهم وتحديداً في هذه الصحيفة حين أقعده المرض، وذلك قبل ثلاث سنوات تقريباً. ثم لم تأب عين النهار التي غاب بها الشيخ يوسف.. حتى لحقه وبعدها وبأقل من 24 ساعة العم.. وهو (عم الوالد) عبدالرحمن بن صالح المطلق -رحمه الله رحمة واسعة- الذي أخصه بهذه الأسطر:
أجل، ليس لدي ما أقوله عن العم عبدالرحمن.. سوى بضاعة (مُزجاة) سوّل لي اغترار قلمي بما أملاه أن أعرضها على مضضٍ، وإلا فماذا أقول عنه، أو أدع؟
فإن قلت عنه اللطيف السمح الخلوق فلن تخطئ الوصف، لأنه يغالبك بابتسامته، التي تضفي عليك بأنس لقائه بك، أو ما يغمرك منه فرحه كأنك -للتقريب- أنت صاحب المعروف عليه، بل يذكرك بقول أبو تمام:
تراه إذا ما جئته.. مُتهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
فبرغم أن له الحق الأكبر، فهو.. لا يطلبه، ولا يعتب على التقصير في إبلاغ هذا الحق، كم علق بذهني ما أوجز عنه ابن العمة (يوسف السعود): عمره ما زعّل أحد، ويزعل لزعلنا، ثم نزعل على زعله -مطابقة بلاغية، لكنها بحق الفقيد: حقيقية-.
بل أكاد لا أبالغ إن قلت إنه يلتمس التعذير دون أن تبدي له العذر، وصدق أحمد شوقي حينما قال:
رُزقت أحسن ما في الناس من خُلق
إذا رُزقت التماس العذر في الشيم
فكم كان يلتمس الأعذار بحق من له الأبوة عليهم فيما كان -مع ذلك- سباقاً من زوايا الوصل والتواصل التي أصلها حقوقاً له.
فلا مناسبة إلا وتجده أول من يحضر وأكثر من يهتم بل هو أول من يبحث، ودائماً يسبق ويسأل، وكم كان حينما كانت همته الجسدية تساعده أقول كم كان حريصاً على الجمع، بل على استقطاب المناسبات التي ليس من ورائها داعٍ سوى أعز مناسبة: (الوصل) فقط، والتواصل والحضّ على الأنس. فهذا العم الموطأ كنفاً، فلا تحمل هماً بوجوده في مجلسك، فهو كأحاد جلسائك، أقصد كأحادهم من حيث الشخص والقدر، إذ يضع نفسه موضعها، أقول بهذا كـ الحقيقة عنه وهذا على رفعته مكاناً.
فأحسن أخلاق الفتى، وأجلّها
تواضعه للناس وهو رفيع
مطبقاً بحق قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله امرءا عرف قدر نفسه»، فقد كان أكثر من يعرف قدر نفسه، بل حتى إني أجزم أنه ينزلها دون منازلها!
فكم تجده بين أبناء من هم بمقام أبناء إخوانه.. أو منهم بمقام أبناء بنيه لأنهم أحفاد إخوانه، ومع ذلك تجده بينهم مثلهم كأسنان المشط لا فرق ولا تفارق ولا تمايز، فلا تجده يبحث عن تفضيل في هذا مع أنه عمٍ أو بمقام أب، وهو -والله- كذلك، لحديث (العم صنوا الأب)، ولا يتلمس هذا القدر من لدن -كما تقدم- منهم في مقام أبنائه وأحفاده.
هذا.. ونحن جلنا له كذلك، فقد كان وهو عم الوالد يرحمهم الله، فـ(أنا حفيد أخاه محمد..) ومع ذلك كان يتحمس حماس عجيباً.. إذا ما هاتفته/ من أنني في زيارة إليك يا عماه، أو متى يناسبك يا عم؟ فكان لا يعتذر إلا إن كان خارج الرياض، وإلا فهو ناظرٌ إليك ومنتظر مقدمك مرحباً، ومستشرفاً اللقاء، وكان.. آخرها قبل بضعة أشهر حينما قلت له إنني مشتاق لك يا عم!، فلزّم بجملٍ جليلة الوقع علي وكأنني أحد كبار القوم أن أشاركه الغداء، ووالله ما قبلت ذلك إلا لعلمي أن هذا مما يُفرحه، وثم خوفاً أن أكلفه الانتظار في موعدٍ آخر- فقد كان يحمل هماّ لمن يصله أو يتواصل معه.. ولا يجده-.
وبالمناسبة.. فقد كان العم -رحمه الله- نموذجاً عجباً في موضوع الوصل، فيما (التعذير) للمقصر هو عنوانه الدائم.
فكم كان يلتمس العذر والمعاذير لأهل التقصير -من أمثالي-.
لافتة: كيف لا يكون ذلك علينا منقبة.. و(المعارف) في أهل النّهى -ونحن صنوهم-: ذممُ، وقد قال فاروق هذه الأمة -عمر- رضي الله عنه: (التمس أخليك سبعين عذراً)، فيما انقلب حال الناس، التمس سبعين سبباً.. ولوماً -إلا ما شاء ربك-.
أما الزاوية الأخرى لهذه السحنة الجميلة (التي فقدناها) أن.. كان وهو بمثابة الأب للغالب، فقد كانت ابتسامته تخالط كثيراً من كلامه، وغالبه الحياء الذي يجلل شخصيته، وربما -أقصد الابتسامة- هي جليل تعابيره.
فما (ماهية تعابير ابتسامته) التي يقابلك بها، سوى ابتسامة شوق، وابتسامة الوالد المحب.. وليست تلك التي يغلفها التأنيب أو اللوم -الخفي- أبداً.. وما كان ينبغي له هذا، وآدابه أجل من هذا، فعليه من ربه شآبيب الرحمة -غوادٍ رائحات- آمين آمين يا رب العالمين.
أكرر للصورة -الباقية- والتي لا أنساها لعمي (عبدالرحمن) تلك المواقف التي يكتنفها همته وشهامته في بذل نفسه، واستصغارها، سواء كنت معه في مجلس رسمي، أو مجلس خالطه كثير من الأحباب والأصحاب الذي كما قال الشاعر الشعبي ليس فيه (نفسٍ ثقيله)، فـ:
هذا ولد عمّ وهذا ولد خال
وهذا خليل من ندور بديله
أقول رغم مقامه ذاك، فإنك وهذا.. هو العجب الأكبر:
أنك لواجد به تبسط لا تصنع من ورائه، أي ما ذاك صنيع آتٍ منه بتصنع!
بل هو جزء من شخصيته إن لم أقل جزءاً من تركيبته العجيبة.
فهل عليّ من عتبٍ، أو هو تطويل.. أن أقول فيه:
كم كان قريباً منا، كم كان خلوقاً معنا، كم كان لطيفاً بنا، كم كان يملئ كثيراً من زوايا حياتنا.
ومن هذه الأسطر، فإني أرفع (العزاء) للمطلق عامة.. في «العمدة» منصباً، والعميد لها -اليوم-.. مقاماً. لأعرج بعدها.. حين تسنّم.. منصباً (العمدة) سنوات تقارب.. أو تربوا على العشر يرحمه الله، لهذا الذي هو (عميد) أسرتنا من ناحية علوّ الجد -بين أقطاب الأسرة اليوم-. لأقول عن العمودية وقد كان أهلا لها، فلكم كان يلتمس الستر في كثير مما يجد له إلى ذلك سبيلاً، من رفد رسولنا صلى الله عليه وسلم: (... من ستر على مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، بخاصة تلك الأوضاع التي يشوبها السقط غير العمد، أو ما فتح به ولي الأمر باب لعودة المقصر منه، أو ذاك الذي يحتاج إلى ذي الحنكة أن يبت به، وما بقياس هذا، فقد كان العام -يرحمه الله- أهلاً حين قام بهذا خير قيام.
رحمك الله أبا صالح رحمة واسعة، فقد أتيت إلى هذه الدنيا بعبء قليل، وذهبت منها (زخماً) حمّلته لك القلوب كبير عليها طيه.. هكذا!
همسة (محب) أسوقها من عبق سيرته يرحمه الله: أي من وراء هذا التأبين -.. واللبيبُ (خبير): خُذ الدنيا وكأنها مسألة حسابية.. فمن اليوم عبرة ومن الأمس خبرة، واطرح منها التعب والشقاء، واجمع فيها الحب والوفاء، ثم اترك الباقي على رب السماء -سبحانه- فما.. نقول هذا، أو بالأصح نذكر بهذا؟
إلا.. لأن (عمي) كنموذج، أحسبه أخذ الحياة بهذا العبير الأثير مرامه، فما كانت الدنيا في عينيه -وأقول هذا عن معرفة.. لا تزكية -تستحق شياً في ذهنه، ولم تكن شاغلته، ولم يلتفت للجمع أو التكثر منها.. لجمعها، بل حتى (كرمه).. كان آتٍ من تلقائية ذات حتها الحديث (.. فليكرم ضيفه) فطبّقه! فلم يكن من وراء تكاثر دنيا، لكي يبلغ منها ذاك المقام.. بل.. شيء من رزق قليل، مضى خلفه ليتطلب به الستر ما وسعه لذلك سبيلاً. أجل، فلكم أحببناك يا عماه وقد أنست قلوباً تشربت من نهركم المتوهج ولهاً.. الوارف رفأً، المنسكب وجداً، الفائض حباً..، فـ/ لله عهد سرور ازدان بكم.. فلكم كان بمثلك -والله- بالدنيا يغرينا، فـ آهٍ
بكت عيني اليمنى، فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحلم.. أسبلتا معاً
فأي (حلم) أمام فقدنا إياك يا عماه.. مساعدٌ بعدها..
ابنك/عبدالمحسن بن علي المطلق