ترتفع أقدار الناس بمقدار ما يتحلَّون به من قيم كبرى، وما يعرف عنهم من شيم ومكارم؛ والأتقياء الأخفياء من خير عباد الله، وما الدنيا وزخارفها إلا ظل زائل وعارية مسترجعة وسراب تفضحه الحقيقة. ولذلك تبين أقدار الناس حينما يعرضون على ميزان التقوى لله تعالى.
وأحسب أنّ عمتي سارة بنت عبد العزيز بن إبراهيم العسكر واحدة من النِّساء اللاَّتي خلَّفن ذكراً حسنا وسيرة عطرة وكسبن كنوزاً من الخصال الحميدة التي لم يتحل بها كثير من الناس.
وفي ليلة الثلاثاء السادس عشر من شهر صفر من عام ثلاثة وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ودَّعت الدنيا بعد عمر مديد ملأته بطاعة الله تعالى وكسبت فيه خير المحامد وكريم الشمائل.. فقد كانت مثالاً في الصبر والاحتساب فكانت حريصة على صلة الرحم وتقوى الله تعالى والبر والإحسان، تحمّلت شظف العيش وقلّة ذات اليد، وابتليت فصبرت؛ فقد مات أبناؤها وبناتها ولم يبق منهم إلا واحدة هي التي عاشت معها وأكرمها الله بأن تنفرد ببر والديها حيث كان لمواصلتها التعليم أثركبير في فقهها وبرها ونفعها لوالديها، أما بقية أولاد عمتي فكانوا يموتون صغاراً, ومرض زوجها زمنا طويلا فأحسنت إليه ولم تبتعد عنه، وحفظت بيتها وعاشت عزيزة النفس قانعة بما قسم الله فبارك لها وأسعدها.
حفظت كلام الله تعالى فكانت تردِّد آيات القرآن ليل نهاراً، وكانت حريصة على العمل؛ فكانت تصنع الأواني والفرش من سعف النخل، ومن تلك الأواني (المخرف والسفرة والحصير والمهفة) وكنا نستعملها في شبابنا ونسعد بأنّها من عمل نسائنا وقريباتنا.
وفي السنين الأخيرة من حياتها عاشت مع ابنتها حيث مات زوجها رحمه الله فكانت تضحي له من وقفه، وتجيب دعوة من يدعوها، وسخر الله لها إخوة وأخوات كراماً كانت محل حفاوتهم وإكرامهم في الرَّخاء والشِّدة والعسر واليسر والسَّفر والحضر يساعدهم في ذلك أبناؤهم الذين تربوا على الصِّلة والوفاء والبر. فكنا جميعا ننال منها الدعاء والمحبة يلهج بذلك لسانها ليل نهار.
ومن خصالها الحميدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكانت غيرتها على أرحامها صغاراً أوكباراً شديدة شديدة؛ فكانت تثني على الصالحين المتقين سراً وجهراً، كما كانت تنبِّه المخالفين والمخطئين وتكرر عليهم النصيحة مُبيّنة لهم حبها وغيرتها وحرصها عليهم، وقد نفعت نصائحها وتغيرت أخطاء كثيرة، واستقامت اعوجاجات متعددة بتوفيق الله تعالى ثم نصائحها المخلصة الحانية.
أما علاقتي بها فلم تكن علاقة امرأة بابن أخيها فحسب، ولم تكن علاقة مواسم ومناسبات شكلية فقط، وإنّما كانت - بتوفيق الله وعونه - علاقة ابن بأمه ووالدة بولدها، وكان لوالدي حفظه الله ومتَّعه متاع الصالحين السَّبب الكبير في ذلك بحرصه على البر والصلة؛ فلم يمنعه الانتقال بسكنه إلى الرياض من التواصل معها في الدلم والسيح في محافظة الخرج وكنت ساعده الأيمن في ذلك علاوة على ما يسر الله لي من صور تواصل أخرى.. فكانت تخصني وأسرتي بمحبّة وود كبيرين عبّرت عنهما حينما حدث لي حادث سير قبل سنين ثم كانت تُكرِّر ذلك أمام والدي ووالدتي.
ولقد كسبت من صلتي بعمتي خصال الخير والقيم الكبرى التي أكرمها الله بها.. فعرفت أنّ ارتفاع قدر المرء عند الله تعالى ثم عند خلقه بما يتحلّى به من أخلاق وصفات حميدة؛ أما الدنيا فلا قيمة لها وبخاصة لمن فتنتهم وأشغلتهم وأعمت بصائرهم فلم يلتفتوا لمن هم دونهم وقطعوا أرحامهم وضعفت علاقتهم بشعائر دينهم من فرائض وسنن، وأحسب أن الصَّابرة المحتسبة سارة بنت عبد العزيز العسكر واحدة ممن تربوا على يد أب كريم هو عبد العزيز بن إبراهيم الذي عرف بتقواه لله والكرم والشهامة والبر والصِّلة والغيرة على محارم الله وأم كريمة هي فاطمة بنت زيد المحسن البارة الوفية المحتسبة المربية التي خلفت ذرية صالحة وأعانت زوجها على أن يكون غرة في جبين أسرته وجيرانه وأهل بلدة العذار والقصور جميعاً.. ولقد طال ما سمعت الثناء على جدِّي وجدتي من جيرانهم ممن أدركتهم أحياء ومنهم الشيخ عثمان بن عبد العزيز بن هليل غفر الله له ورحمه..
وفي السيرة العطرة التي خلفتها عمتي رحمها الله أكبر العزاء لابنتها خاصة ولأحبابها عامة، نسأل الله الكريم أن يبدلها داراً خيراً من دارها وأن ينير قبرها وأن يجزيها بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفرانا وأن يغفر لوالديها وأن يجمعنا وإياهم في جناته جنات النعيم إنه جواد كريم.