يرتبط مفهوم الثقافة ومدلولها بتاريخ الشعوب، والشعب سواء أكان قديماً أم حديثاً بلا ثقافة فهو بلا شك بلا تاريخ، وما زالت الثقافة على أهميتها محط نظر العلماء والباحثين في مختلف المجتمعات شرقية أو غربية، حيث اهتموا بتعريفها وعنصرتها ونشرها ومشكلاتها، ومع ذلك فهي منعطف الطريق الصعب، وحلقة التواصل بين الشعوب على تعددها وتنوعها واختلافها، ولا زالت الدراسات العلمية والبحوث المعرفية مستمرة إلى وقتنا الحالي، وذلك لأن الثقافة تعبر عن الشعوب ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
والثقافة كما يصفها أحد المؤرخين الغربيين (هي كيس فارغ لا ينتصب حتى تضع فيه شيئاً)، أما العرب فيقولون (كل إناء بما فيه ينضح)، وهذا الإناء يظهر بادياً للعيان وهو يكشف عما بداخله من تراث وحضارة ونهضة، ولكل هذه القيم الثلاث معيار خاص يتفاوت خفة وثقلاً، ويلعب التوجيه الأخلاقي في رجاحة هذه القيم بين مجتمع وآخر، حيث يطهره من الزلات والشوائب فيتحول هذا المعيار إلى قيمة جمالية ذوقية، وللإسلام دور بارز في تكوين مفهوم الثقافة وفي تذليل صعوباته، وذلك لأن روحانية الفرد وشفافيتها منحة من الله عز وجل له، وهذه الروح تنصقل بهذا الدين بل تزهو وتسمو إلى أعلى درجات الرقي العقلي والسمو الثقافي الفكري، ومن هنا تتفجر ثقافات ناهضة تظهر بصورة جلية في عقولنا، وإدراكنا وسلوكنا، والتوجيه الاجتماعي له دور كبير في حضارة الشعوب وذلك لأن المجتمع يستفيد من كل أطرافه ليكون مجتمعاً حضارياً تسود في أرجائه القبيلة برمتها، وتظهر الروح الاجتماعية خلاقة منتمية متماسكة.
الحديث عن الثقافة ذو شجون، فهي ما زالت حديث اليوم وستزال، ما هي الثقافة؟ هل هي النواة الروحية التي تميز كل مجتمع عن غيره؟ أم هي حلقة المعلومات والحقائق على اختلاف أشكالها وألوانها؟ أم هي السمة الذاتية التي تميز مجتمعًا ما عن غيره؟ وكيف ولدت الثقافة؟ ومتى بدأت؟ ومتى تنتهي؟ ثم السؤال الجوهري كيف يمكن لنا أن نثقف أنفسنا؟ وما هي الطريقة المثالية التي نجني من ورائها سمة الثقافة؟ ثم دور الإسلام في تنمية (نظرية الثقافة) وحله لعويص مشكلاتها؟ على اعتبار أنه الدين الكامل المناسب لكل زمان ومكان، وهو دين التبصر والتأمل والروحانية والشفافية، والذي من شأنه أن يولد الأفكار، ويفتق العقل والوجدان، حتى يغدو محملاً بالعلم مزوداً بالثقافات.
وتبين المكتبة العربية ما للثقافة من بروز وأهمية، يظهر هذا بجلاء في الكتب العديدة التي طرقت الثقافة على أنها نظرية لها رؤاها وأبعادها، ويعد المفكر الجزائري مالك بن نبي من أبرز من كتبوا عن الثقافة ببعدين اثنين: على أنها نظرية وعلى أنها مشكلة، وتمكن من خلال دراستها من وضع الأسس الفكرية لها والنظم الثقافية، كما وضع منهجية إسلامية، فهو بهذا أحد المصادر الأصيلة في كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة حيث تتسم رؤيته بالعمق والنضج والأصالة، التي تكشف منهج مالك بن نبي العقلاني المنطقي في تناول مفاهيم عدة كالحضارة ومشكلة الاستعمار، ونظريته الثقافية التي غلبت على اتجاهاته الفكرية تناولها في ثلاثة كتب وهي (مشكلة الثقافة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) و(الصراع الفكري في البلاد المستعمرة).
لقد أقلقت الثقافة مضجع هذا المفكر الإسلامي فغاص في بحرها، قائلاً: (الثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحيوية والتوازن في الكائن، كما تكون جهاز مقاومته الذاتية).
وإن (مشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه، فهو بصفة عامة قوة في الأساس وتوافقًا في السير ووحدة في الهدف، فكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه، متجهة إلى الهدف نفسه، فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية، وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساساً فكرة توجيه الإنسان الذي تحركه دوافع، وبلغة الاجتماع، الإنسان الذي يكتسب من فكرته معنى (الكفاح)، وليس يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية المتحدة التي نريد تحقيقها).
ومن خلال الفكرة الأخيرة الخاصة بعلم الاجتماع نلمح إحاطة (مالك بن نبي) بحقائق علم الاجتماع وأصوله، كما يبدو منها استفادته من مقدمة ابن خلدون (العالم الأول المؤسس) الذي كتب في علم الاجتماع وشق غباره، ومن منظور الحديث السابق نلمح أيضاً العناية بفن الإدارة على أنواعها المختلفة من إدارة تاريخية وإدارة اجتماعية وإدارة تعليمية، حتى نصل إلى الإدارة المثالية الخلاقة المنتجة، وما تضمه بين إهابيها من تخطيط وتنسيق وتنفيذ، إن الإدارة التي يلمحها هذا المفكر تحتاج إلى إصرار وإرادة وعزيمة وثقافة وطاقة عقلية وفنية بل يحق لنا أن نقول: طاقة عبقرية (إن صح التعبير) لتدير هذا الجهاز الهائل من عقول البشر، وسواعد الأفراد، وهمم الأبطال إلى الغاية المنشودة، والهدف المقصود، ومن تأمل تاريخ (اليابان) وحدها ذات ثقافة متألقة عالية، وتاريخ صاعد، فلم يمضِ على ضعف حالها وقت طويل، لاسيما أن تاريخ نهضتها قريب من تاريخ نهضة الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ومع هذا استعادت قوتها، حتى صارت في مصاف الدول المتقدمة.
وعوداً على بدء يقول عن معنى الثقافة في التربية (وإذا حاولنا أن نحدد الثقافة بمعناها التربوي، فيجب أن نوضح هدفها، وما تتطلبه من وسائل التطبيق، فأما الهدف من الثقافة فإنها ليست علماً خاصاً لطبقة من الشعب دون أخرى، بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي وعلى الأخص إذا كانت هي الجسر الذي يعبره المجتمع إلى الرقي والتمدن فإنها أيضاً ذلك الحاجز الذي يحفظ بعض أفراده من السقوط من فوق الجسر إلى الهاوية).
وعناصر الثقافة وأسسها عند هذا المفكر الجزائري جاءت على الترتيب التالي:
1 - التوجيه الأخلاقي
2 - التوجيه الجمالي.
3 - المنطق العلمي.
4 - الصناعة (الفنية).
والثقافة ظاهرة حضارية، وسمة تراثية، يصيبها ما يصيب غيرها من أمراض وشوائب ومعوقات، ومن عيوب الثقافة ما يسمى (بحرفية الثقافة)، وكشف إبهامها بقوله (لقد نتج عن عدم محاولتنا تصفية عاداتنا وحياتنا مما يشوبها من عوامل الانحطاط، إن ثقافة نهضتنا لم تنتج سوى حرفين منبثين في أنحاء شعب أمي، والحقيقة أننا منذ خمسين عاماً نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه هو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو (التعالم) وإن شئت فقل (الحرفية في التعلم) والصعوبة كل الصعوبة في مداواته وهكذا أتيح لجيلنا أن يشهد خلال النصف الأخير من هذا القرن، ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الأطمار البالية، وحامل اللافتات العلمية.
فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها، لأن عقل هذا المريض لم يتقن العلم ليصيره ضميراً فعالاً، بل ليجعله آلة للعيش وسلماً يصعد به منصة البرلمان، وهكذا يصبح العلم مسخاً وعملة زائفة غير قابلة للصرف).
وأخيراً:
فرحلة المفكر مالك بن نبي الاستكشافية الثقافية، له فيها براهين وأدلة، بحثها من خلال كيفية معجمية موسعة، وحدد مصطلح النظرية الثقافية، ومدى تطوره ونضوجه، وثمة عرج على المدارس الغربية في نظرتها للحركة الثقافية، وماهية تفعيلها، وله عن الثقافة حديث جامع جاء فيه: «لا يمكن لنا أن نتصور تاريخاً بلا ثقافة، فالشعب الذي فقد ثقافته، فقد حتماً تاريخه، فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها، بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة».