«أغلق الباب خلفك».. اصطف الثلاثة أمام مكتب المدير وقد اصفرت وجوههم ويبس اللّعاب في حلوقهم.. حاول أحدهم اجتراع ريقه بصعوبة بالغة فخرج صوت قرقرة محرج تزامن مع تَقَلقُلِ «تفاحة آدم» في حنجرته.. كانت المفاجأة مفرحة.. المدير ليس غضبان.. ناقشهم المدير بشأن قرار يزعم اتخاذه في العمل وسألهم مجموعة من الأسئلة ليستقرأ آراءهم.. كان ذلك مخالفا تماما لتوقعاتهم، فلقد دخلوا لمكتب المدير يتوقعون توبيخا قاسيا أو حتى طرداً من أعمالهم بعدما سمعوا من شائعاتٍ مؤخراً عن غضب المدير من تقصيرهم! خرج الثلاثة من المكتب بهدوء والفرح يكاد يرفرف بهم في الجو...
أبحاث ودراسات
تمر عملية اتخاذ القرار في العقل البشري بثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة التصور وتكوين الانطباع للظرف أو الوضع القائم. المرحلة الثانية هي مرحلة استخدام المنطق لتحليل وحساب الخيارات وردود الفعل المتاحة والأكثر نفعا. المرحلة الثالثة هي مرحلة استخدام قوة الإرادة لتنفيذ الخيار الأنفع الذي تم حسابه. يقوم الوعي بالمرحلتين الأخيرتين، بينما يختص اللاوعي بالقيام بالمرحلة الأولى، مرحلة التصور.
أدبيات علم النفس وتطوير الذات تعج بآليات شحذ وصقل أدوات الوعي المختصة بإجراءات المرحلتين الثانية، التحليل، والثالثة، الإرادة. لكن التركيز والاهتمام البحثي يتزايد الآن بالمرحلة الأولى لأهميتها البالغة. سبب أهمية المرحلة الأولى هي القدرة الهائلة والضخمة للاوعي على استقبال واستيعاب المؤثرات والقيام بعمليات تحليل ومعالجة المعلومات بشكل يفوق قدرة الوعي بمراحل. ولنضع الأمور في نصاب رقمي فإن العلماء يُقدّرون أن الوعي قادر على معالجة 7 إلى 40 معلومة كحد أقصى في الثانية بينما يستطيع اللاوعي معالجة ملايين المعلومات في نفس الفترة! لك الآن أن تتصور مدى النضج والفاعلية والإلمام في اتخاذ قرار سخر طاقات اللاوعي الكامنة في تكوين أفضل وأدق وأشمل وأنفع (لعلنا نناقش صفة أنفع هذه في مقال لاحق) تصور ممكن للواقع، ثم أحال هذا التصور للوعي للقيام بمرحلتي التحليل والإرادة؛ ثم قارن ذلك بالقصور والهشاشة والبدائية التي ستدمغ القرار الذي لم يستفد من تسخير طاقات اللاوعي الهائلة وركّزَ فقط على عمليات التحليل وتفعيل الإرادة في الوعي الضيق المحدود.
السؤال الآن هو: كيف يمكن التحكم في عملية تكوين التصور والانطباع هذه؟! والجواب يكمن في مفهومنا لعملية تكوين التصور والانطباع من أساسه؛ فالأبحاث تدل على أن عملية التصور ليست مجرد استجابة حواسنا لمثيرات خارجية ونقل معلومات عن هذه المثيرات على شكل ومضات كهروعصبية لمستقبلات في المخ لتبدأ بعدها مرحلتي التحليل وتفعيل الإرادة. لا، بل تدل الأبحاث على أن عملية تكوين التصور أعقد من ذلك بكثير وأنها تنطوي على عمليات حسابية بالغة في التعقيد تتزامن بشكل لحظي مع نقل الإشارة الكهروعصبية؛ منها على سبيل المثال لا الحصر عمليات ترشيح «فلترة» ومقارنة وقياس وتعميم وحصر وتَحَامُل وتقدير للتبعات وإسقاط للخبرات السابقة وممنهجة وفق القناعات بل تخضع عملية تكوين التصور أيضا لعوامل مثل المهارة ومستوى التدريب في التقاط و(انتقاء) المؤثرات وترميزها وتصنيفها وهيكلتها وفقا للأهمية أو العلاقة التاريخية أو التسلسل الزمني وتكييف وتحفيز المستقبلات لاستقبال المؤثرات ذات العلاقة المباشرة بالحدث أو الظرف وإهمال أو إرجاء الأخرى.
لنعد الآن لمكتب المدير...
بمجرد أن رأى الموظف الأول ابتسامةً مطمئنةً زين بها المدير وجهه عند استقبالهم اقتطع هذه الابتسامة من السياق التاريخي لتقصيره والسياق الفضائحي للشائعات التي كانت تنهش أروقة الشركة عن غضب المدير وتوعده لهم وقرر أن يبادل المدير أريحيته ويجيب على أسئلته بشكل مباشر. الموظف الثاني شعر بتصادم بين ابتسامة المدير العريضة والشائعات التي راجت مؤخراً فلم يدر كيف يتصرف، ولكنه في النهاية استسلم لِلَبَاقَةِ المدير وكياسته وأجاب على أسئلته. الموظف الثالث كان يملك رصيداً لا بأس به من الخبرة في استقراء لغة الجسد فلم تخدعه ابتسامة المدير العريضة عندما قارنها بتوتر حركات يديه وانشداد كتفيه فعلم أن ابتسامة المدير تخفي وراءها غضبا عارما يتوافق مع ما سمعه من شائعات فقرر أن يكون حذرا في إجاباته وألا يعطي المدير أي مستمسك عليه. بعد أسبوع دلج الخادم ليقدم القهوة وسأل بحيرة عن الموظفين الأول والثاني اللذين لم يكونا على مكتبيهما.. أجابه الموظف الثالث (أوصياني أن أبلغك سلامهما.. لقد فُصِلا)...