الجزيرة - الاقتصاد:
بفائض قدره 386 مليار ريال أنهت ميزانية المملكة عام 2012م .. فرغم أن هذا العام كان مليئاً بالمستجدات السياسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية، فإنه قد فاجأ الاقتصاد السعودي العالم كله أيضاً بتحقيق أضخم ميزانية في تاريخها الاقتصادي بأعلى قيمة للإيرادات بلغت 1239 مليار ريال، وأعلى مصروفات محلية بقيمة 853 مليار ريال .. فقد تفوق هذا العام على آخر عام كان يحسب على أنه الأعلى في تاريخ ميزانيات المملكة، وهو العام الماضي 2011م حيث الطفرة الكبيرة في أسعار النفط .. إلا أن هذا العام تفوق بنحو 129 مليار ريال عن عام 2011م ولتسجل الإيرادات سقفها الأعلى .. أيضاً سجلت المصروفات الحكومية الفعلية لرقم قياسي جديد 853 مليار ريال، وهو الأعلى في تاريخ المصروفات الحكومية السعودية.
ناتج عام 2012م ..
حصاد إيجابي غير متوقع ..
رغم التحديات التي واجهها الاقتصاد الوطني مثله مثل بقية الاقتصاديات الأخرى في ضوء استمرار ملامح الركود الاقتصادي على المستوى العالمي، وأيضاً بدافع أزمات مديونيات الاتحاد الأوربي التي لا تزال في أوجها، فقد تمكن الناتج المحلي الإجمالي السعودي من تخطي حاجز الاثنين ونصف تريليون ريال بفارق ضخم (وصل إلى 2700 مليار ريال)، وليحرز مستوى قياسياً في النمو بمعدل 8.6%، وهو أعلى من المستوى المتوقع والذي كان لا يتجاوز 7.0% على أعلى تقدير تفاؤلي ..
استمرار النهج المحتفظ في تقديرات الإيرادات النفطية في عام 2012م ...
الآن سعر برميل النفط يدور حول مستوى 111.7 دولاراً للبرميل .. وتسير كافة التوقعات الدولية في طريق توقع استمرار مستويات ما بين 90-100 دولار للبرميل في عام 2012م .. رغم كل ذلك، فإن موازنة العام الجديد (2013م) قدرت الإيرادات الحكومية بحوالي 829 مليار ريال، وهو مستوى يقل كثيراً عن مستوى الإيرادات الفعلية المتحققة في عام 2012م (1239 مليار ريال) .. فلو افترضنا استمرار الكميات المنتجة من النفط عند نفس مستوياتها في عام 2012م (عند 9.9 مليون برميل)، وفي ضوء تقدير الإيرادات الحكومية بمستوى 829 مليار ريال، فيبدو أن بسهولة أن الحكومة اعتمدت مستوى لبرميل النفط عند 70-75 دولار للبرميل بحد أقصى .. لذلك، فإن عام 2012م يمثل استمرار وربما مشدداً للنهج المتحفظ لتقديرات الموازنة الحكومية.
الناتج المحلي الإجمالي ترجمة إيجابية للميزانية القياسية ..
عامي 2011-2012م سجلاً الأعلى إيرادات على الإطلاق وأيضاً الأعلى مصروفات على الإطلاق، حيث بلغ مجمل المصروفات الحكومية فيهما حوالي 1657 مليار ريال .. وهذه المصروفات انطلقت إلى قطاعات البنية التحتية بالدرجة الأولى، والتعليم والموارد البشرية والصحة والتنمية الاجتماعية بالدرجة الثانية .. لذلك، فإنه يمكن استنباط أنها اتت ثمارها بشكل واضح تم ترجمته في ارتفاع مستوى الناتج الإجمالي ليصل إلى 2727.4 مليار ريال، ليحرز معدل نمو 8.6%.
موازنة عام 2013م ..
استمرار النهج التوسعي ..
في ضوء الاستقرار النسبي لمعدل التضخم في عام 2012م عند مستوى 2.9%، فإن موازنة عام 2012م تتبنى نهجاً توسعياً جديداً وواضحاً بإنفاق مقدر بنحو 820 مليار ريال، وهذا الإنفاق المقدر رغم أنه يقل عن الإنفاق الفعلي الحادث في العام المنتهي 2012م (والبالغ 853 مليار ريال)، إلا إنه يعد المستوى الأعلى الذي يتم رصده في تقديرات الموازنة للمصروفات الحكومية، بعد أن كان الرقم الأعلى لها في عام 2012م هو 690 مليار ريال .. والتي في الاعتقاد أنها بدأت تتحرك بلا سقف واضح بدءاً من عام 2012م .. وهذه المصروفات الحكومية تمثل لب السياسة الحكومية التوسعية .. ونحن هنا أمام سيناريوهين في تفسير هذا النهج التوسعي الكبير والمستمر والمتوالي منذ عام 2008م :
السيناريو الأول: أن الحكومة تأخذ بسياسة توسعية لمجابهة أي ملامح لركود اقتصادي، وخاصة أن هذا الركود لا يزال هو النمط الأعلى وضوحاً في الاقتصاد العالمي .. ويقوم هذا السيناريو على أن هذه السياسة هي سياسة وقتية ومناسبة لهذه الفترة، ويمكن تغييرها في أي وقت لاحق، عندما تتحسن المعطيات التي بنيت في سياقها.
السيناريو الثاني: أن الحكومة تعتمد نمط الانفاق الحكومي الموسع كنمط اقتصادي جديد، يقوم على إعطاء دور حيوي جديد للقطاع الحكومي بصرف النظر عن القطاعات الأخرى. وبالتالي هنا من غير المتوقع تغيير هذا النمط، بل ربما يكون النهج هنا اعتماد القطاع الحكومي كقطاع رئيس ومحوري في التنمية عوضاً عن التركيز على القطاع الخاص وحده، أو عوضاً عن انتهاج الخصخصة المطلقة.
وجدير بالملاحظة أن هذا النمط التوسعي المستمر والمتوالي منذ أكثر من أربع سنوات يمكن سمات إيجابية عديدة للاقتصاد الوطني، إلا إنه في نفس الوقت يمثل نوعاً من المحاذير خوفاً من انتكاسة السعر العالمي للنفط في أي وقت خلال السنوات المقبلة .. فالاقتصاد الوطني يمكن أن يعتاد على هذا المستوى المرتفع من المصروفات الحكومية، وخاصة أنها المحرك لأوجه النشاط الاقتصادي الأخرى .. وهو ما يطلق عليه فرضية الدخل المرتفع، والتي تمتلك قدراً من المخاطر، وهي الفرضية التي ركز عليها أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي في تحليله لمسارات الموازنات الحكومية لدول مجلس التعاون ككل ..
إلا إن هذه الفرضية والمحاذير التي تثيرها ليست في محلها في جزء كبير منها في تطبيقها على الاقتصاد السعودي لسبب هام للغاية، وهي حجم الفوائض المالية المتراكمة التي يتم تجنيبها سنوياً .. هذه الفوائض تعوض التركيز المبالغ فيه في الأخذ بفرضية الدخل المرتفع .. حيث إنه مخاطر هذه الفرضية هي سقوط أسعار النفط في أي سنة من السنوات .. وبيئة الاقتصاد العالمي تثبت اليوم أنه ليس من المتوقع أن يسقط سعر النفط سقوطاً كبيراً عن مستويات الـ 80 أو 90 دولاراً للبرميل، وهذه المستويات هي نفسها تمثل سقوطاً بالمعنى المتعارف عليه لأسعار النفط في فترة ما بعد 2010م .. فالموازنة الحكومية السعودية كما هو واضح في عام 2013م لا تزال تأخذ بتقديرات لسعر النفط عند 70-75 دولاراً للبرميل، وهو مستوى تشاؤمي يفترض أن سعر النفط يمكن أن يسقط لهذه المستويات، وحتى لو سقط لمستويات أعلى منها مثلاً فإن الفوائض المتراكمة يمكن أن تضمن استمرار مستويات الانفاق الحكومي العالي، وبالتالي تضمن استمرارية الانفاق على المشاريع التوسعية الضخمة في البنية التحتية وخاصة في مجالات النقل والإسكان على سبيل المثال.
ملامح مخصصات
موازنة عام 2012م..
المواطن في قلب الموازنة الجديدة، فما ينفق بشكل مباشر على المواطن أو خدماته بلغ حوالي 53.2 مليار ريال، وهي قيمة تتجاوز قيمة مجمل المصروفات في سنوات عديدة ماضية .. أي أنه يمكن القول أن نسبة ما ينفق على المواطن في 2013م يتوقع أن تصل إلى 65% تقريباً .. وتصل نسبة المخصص للتعليم إلى حوالي 25%، في حين تصل نسبة المخصص للصحة والتنمية الاجتماعية إلى حوالي 12.2% .. في حين أن نسبة المخصص للبلديات إلى حوالي 4.4%، أما الصناديق المتخصصة فتصل نسبة المخصص لها إلى حوالي 8.3%.
موازنة عام 2013م ..
قبول التضخم ورفض الركود..
موازنة عام 2013م تعبر بشكل أو بآخر أن الاقتصاد الوطني هو اقتصاد يمكن أن يقبل على فترة تضخم، ولكن لا يبغي الركود .. ويبدو أن التضخم في الإمكان السيطرة عليه وكبح جموحه بأساليب عديدة، ولكن الركود هو المرض الاقتصادي الذي تتجه السياسة الرسمية في 2013م لمجابهته بكل قوة .. وترى كثير من الأطراف أن هذه السياسة هي الأكثر مناسبة لوضعية الاقتصاد الوطني الذي تضخمه يعني مكاسب لأطراف اقتصادية عديدة، في حين أن ركوده قد تتسبب في معاناة قد لا تحتمل.