|
في صبيحة يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر صفر من عام 1434هـ صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها من الجسد الطاهر للجليلة الكريمة المباركة قماشة بنت مقبل بن حماد الشبيلي، وكان آخر كلامها شهادة أن لا إله إلا الله، شهدت بذلك أصبعها السبابة اليمنى التي بقيت مرتفعة إلى أن ووريت في قبرها.
لقد فجع الأبعدون عنها رحماً ونسباً وصهراً كما فجع الأقربون وضجت البيوت والمحاريب من الأهل والأصدقاء والجيران بالبكاء من ألم الفراق للحبيبة القريبة الكريمة العطوفة اللطيفة الودودة.
فقدها الكبار والصغار والرجال والنساء بل فقدها محرابها وجلبابها ومقعدها وممشاها والنسمات التي كانت تعطرها بطيبها وحسن خلقها، ألا فحق للعيون أن تسح دموعها وللقلوب أن تنفطر عليها جزعاً على الفراق لولا ما يسليها من الإيمان واليقين أن الرضى والصبر هو الأحرى والأحب إلى الله, فيا ألله صبّرنا وانزل السكينة علينا ورضّنا بما كتبت، فلك الحكمة البالغة وأنت الحسيب الوكيل ومنك وإليك أرواحنا، ولا نقول إلا ما يرضيك فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد كانت قماشة أماً للجميع القريب والبعيد والكبير والصغير والشيخ والعجوز والطفل الرضيع والراضي والساخط والواصل والجافي والمحسن والمسيء, لم ير أحد منها إلا الحب والصدق والصفاء والإجلال والحنان والعفو والصفح والإحسان وبذل المعروف، فلله أنت يا قماشة الشبيلي كم تطيقين وتستطيعين ما لا نطيق ولا نستطيع (ومن يطق ما تطيقين يا أم عمارة) {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
ألا كم رحمة حُجبت وكم عطيّة رُفعت وكم صلة رحم قد طُويت بوفاة هذه المرأة العظيمة أم الجميع قماشة الشبيلي.
سبحان الله كم يودع في بعض من يصطفيه من خلقة من أسرار صنعه وبديع خلقه من الآيات العظيمة الباهرة فجعل من قماشة الشبيلي آية في حسن الخلق وجمال الروح وكريم الخصال آية دالة على جماله وجلاله وعظمته.
لم أر خلقاً اجتمع للصلاة عليها خاصة من النساء مثل ما اجتمع للصلاة على قماشة الشبيلي، وصدق أحمد بن حنبل رضي الله عنه إذ يقول (الموعد الجنائز).
انتقلت إلى بيت جديد قبل سنوات قليلة وإذا بها تكون بين نساء تلك البيوتات المجاورة كالشمس في دفئها والصباح في ضيائها والقمر في جماله، واجتمع النساء حولها وقد أخذت بمجامع قلوبهن فلا يرين أطيب ولا أحسن ولا أكرم ولا أنبل منها بينهن، هذا ما سمعته من أزواجهن وآبائهن وهم يتقاطرون لعزاء زوجها الكريم ابن الكرام حماد بن سليمان الشبيلي.
أما برها بوالدتها -رحمها الله- فلا تسأل عنه فقد كانت تزورها كل يوم مرة أو مرتين وتواصلها بالهاتف من ثلاث إلى خمس مرات يومياً تباسطها الحديث وتعطيها الأخبار مما تحسبه يسرها ويسعدها.
فكانت لا تقبل أن تدخل على من هي ذاهبة إليه مهنئة إلا بهديتها فلم تكن تدع أحداً تزوج أو نجح في دراسة أو ترقى في وظيفة إلى نفحته من يد كريمة معطاءة لا تخشى الفقر فضلاً عن الصِلات والهبات والصدقات.
ومن عجيب ما تصنع أنها إذا مرضت فإنها لا تلبث كل يوم أن تتصل على أخواتها وصويحباتها لتطمئنهم عن صحتها وتخبرهن عن تحسن حالها, وإن سألت الأطفال حدثوك عن غرامهم بها لأنها هي المغرمة بهم قبلهم وهي الأم الرؤوم لكل طفل أينما وجدته تحظى منه بقبلة ويحظى منها بهدية، وقد كانت تتصل أحياناً على قريباتها وتطلب منها تجميع أطفالها وأطفال أخواتها حتى تأتي إليهم فتلاطفهم وتلاعبهم وتهاديهم, ومن العجائب والعجائب جمّة في حياة قماشة أنها بعد كل صلاة تبقى في محرابها قدر ما صلت مرة أو مرتين تدعو الله لكل أحد وتخصهم بأسمائهم فلاً وفلانة وفلان وفلانة وقد ذكرت إحدى بناتها أنها سمعتها تسمي في دعائها امرأة كان منها على أمها بعض الأذى تدعو لها بكل خير.
أما ابنتاها مها وسارة فقد رأيت منهما العجب وسراً من أسرار قماشة في حسن التربية والرعاية، فقد كانتا أول من فجع في والدتهما وما رأيت منهما نحيباً ولا صياحاً ولا تسخطاً بل أشهد لهما بما رأيته من الصبر والرضى وقد لهجت ألسنتهما بالحمد والشكر والاسترجاع والإقرار بالحول والقوة لله رب العالمين بل كانتا هما اللتان تصبّران خالاتهما وعماتهما وصديقاتهما وكل المفجوعات المكلومات والمصابات بفقد الحبيبة أم الجميع قماشة الشبيلي.
وأعجب من صعود روحها إلى بارئها من بيننا وهي تنشر الرحمة والطمأنينة والسعادة بيننا في لحظات حس وصفاء وحبور، إن ذلك لآية أخرى من آيات الله فقد رأيت أن أكثر من يحبه الناس يذهب عنهم إلى ربه عاجلاً ويقطع عنهم أنسهم ولذاتهم بقربه، فكأن الله يشتاق إلى أحباب خلقة في الأرض ليكونوا عنده في السماء فقد أحبه قبلهم ووضع له القبول والحب في الأرض كما جاء في الحديث الشريف...
رأت في مناماتها قبيل وفاتها أنها تسير مع والدتها -رحمها الله- في شارع عثمان بن عفان رضي الله عنه رمز الخلق الكريم والحياء الجم، ويشهد الناس لها أنها من هذا الحزب المبارك.
اللهم اغفر لقماشة الشبيلي وارحمها وعافها وأعف عنها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد ونقها من الذنوب والخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وجازها بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً وارفع درجتها في الصالحين.
اللهم آجرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيراً منها واجمعنا بفقيدتنا في جناتك جنات الخلود و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
وعزاؤنا لكل المصابين بوفاتها خاصة زوجها الحامد الشاكر الصابر الأستاذ حماد بن سليمان الشبيلي وابتنيها مها وسارة ولأخواتها وقريباتها وصويحباتها وجيرانها، جمعنا الله وإياهم معها ووالدينا وأهلنا في مستقر رحمته.