** احتفى المقرر التعليميّ في وقتنا بالاختلافات العَقدية بشكلٍ خاص؛ فدرَسنا “الملل والنحل” كما رسمتها اتجاهاتُ “القدرية والجبرية والمرجئة والمعتزلة والأشعرية” ومن دار في أفلاكهم، وتساءلنا عن نواتجِ استدعاء التأريخ واستعدائه حيث لم تعد تلك المذاهبُ ذات شأنٍ فاصلٍ في حياة الأمة، واقتُرح التركيزُ على المعاصر منها؛ وبخاصةٍ ما يتداخل فيه السياسيّ مع القوميّ في تركيبةٍ ظاهرُها الدين وباطنها السلطة والسيطرة، غير أننا لم نجنِ شيئًا من هذه ولا تلك.
** حاولنا أن نستبدل بها مجالسَ العلم الرصينةَ المسكونةَ بالحوار الهادئ، ثم نابت عنها مماحكاتُ السياسة ومناظراتُ الجدل وتسطيحُ بعض الإعلام الرقميِّ، وبينما أذن زمنٌ بنقاشاتٍ ثريةٍ بين الأقران ومع الرموز حول قضايا فكريةٍ وشرعيةٍ ولغويةٍ ومجتمعيةٍ صار الهاجس السياسيُّ العابر والجدلُ المؤدلجُ الصاخبُ قاعدةَ الارتكازِ المنطلقةَ بعدوى التفاعل والانفعال لمن يعي ومن يدّعي حتى صار “آمُّو” هذه الوسائط خبراءَ دون خبرةٍ؛ فتماهى النخبويُّ والشعبويُّ بما جعل الألوان مختلطةً أمام الرائين والمترائين.
** قبل سنوات فتحت إحدى القنوات الفضائيةِ حوارا “مذهبيًا” تفاءل فيه بعضٌ خيرًا، واستمرأته وسائلُ أخرى زادت عليه وتخصصت فيه والتهب السطحُ الساخنُ بما أشعل الفُرقةَ وأحيا الموتى وعدنا إلى السقيفة والجمل نجترُّ حكايات أمةٍ خلت “لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت”، واصطدم الجيل المنعتقُ من أوزارِ النكبة والنكسة والمسرحةِ بما أعاده قرونًا وظنونا.
** التيه في التأريخ قطيعةٌ مع الحاضر، والإبحار في تفاصيله غرقٌ في الغابر، ولا يمكن لأمة تعيش التيه وتعاني الغرق أن تعتلي مكانًا في مسار الغد، ومن يطلعُ على ردود الفعل الموثقة عبر الوسائط ذاتها ومشابهاتها يدرك التردي الذي تقودنا إليه مثل هذه المناظرات، واستدراجُ الجماهير إليها -بحسن نيةٍ أو سوئها- يفرز بذيءَ القول واتهامَ النوايا وتجذير الاختلافات بين أبناء الحيِّ والقرية والعشيرة والوطن.
** ليس المطلوب أن نتفق؛ فالاختلافاتُ هي الأصل، وحين تنتفي نتحول إلى مجموعةٍ من المستنسخين الذين يكررون أدوارهم وأدواءَهم، ولا يمكن تبريرُ الذهنية القطيعية التابعةِ الخانعة التي لاتبني نظرةً ولا تؤسس نظرية، غير أن هذا لا يعني استنزاف الوقت والمشاعر في تحشيدٍ طائفي وإقليميٍ من أجل خلافاتٍ ماضويةٍ تعترضُ دروبَ الأجيال المتحررةِ من إسار التأريخ وجنايات ساكنيه.
** ليت القنواتِ المعنية التي تقتاتُ على العواطف وتستمطر العواصف تدرك ألا مستفيد إن أثبتنا أفضليةَ هذا وأحقيةَ ذاك وشرعنة ثالثٍ وشورعة رابع؛ فلن يمكن تقويمُ من ضلَّ عبر الجدلِ المشبع بالهوى والمصالح، ولا ذنبَ للإنسانِ المسالم حين تختلط أمامه الرؤى فيتخذ مواقفَ حديّةً يستثيرُها ويبتسم لها تاجرٌ يحسب أرباحه في نهاية كل لجاج.
** وكما القنوات يبدو الفضاءُ الشبكي ألغامًا من الشحناء تُنبت في النفوس المتباعدةِ حواجزَ نفسيةً ويسخر من أمةٍ تختلف حول رمسها، والزعيقُ المذهبيُّ لا يهدي بل يهذي، ويبقى دورُ الخطاب الرسميّ “الدينيّ والمدنيّ” عقلنةَ التجاوز وعدم الانقياد خلف الشارع “الإعلاميّ” المائج.
** الضجيجُ يُصمُّ ويَصِم.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon