حين قرأتُ مطالبة رجال دين سعوديين برفض قرارات وزارة العمل بشأن توظيف المرأة، وتهديدهم وزير العمل بالدعاء عليه بمرض السرطان إن لم يلغِ قراراته، أيقنت أننا نمر بمرحلة متجددة من الصراع بين الفكر الديني المتسلط والمجتمع المدني الذي يجتهد في إيجاد حلول لأزمات الفقر والبطالة في المجتمع. وحسب وجهة نظري تدخل تلك الدعوة في دائرة الرهبانية التي لا يقرها الإسلام، وتُعتبر أحد وجوه الإرهاب الفكري في المجتمع السعودي، وإذا لم يتم تفعيل القضاء والقانون لوقف مثل هذا العنف الرهباني سيحدث ما لا تُحمد عقباه؛ فالتحريض بهذه الطريقة السلطوية يؤدي إلى تحويل الاختلاف إلى أزمة كراهية وتعصب، لكن الأخطر من ذلك أنها تفتح الباب لاستمرار تسلُّط هؤلاء على رقاب الناس.
يُخطئ من يعتقد أن مفهوم هؤلاء الدعاة كان غائباً عن زمننا المعاصر، فقد كان حاضراً بكل ما تعنيه الكلمة، وقد يحتاج الأمر إلى مجلدات لرصد الممارسات السلطوية التي استخدمت - ولا زالت تستخدم - الدين الحنيف لمحاربة وسائل العمل والمدنية ورفع مستويات الكرامة الإنسانية عند الإناث والذكور، فقد تمت مطاردة كل شيء جديد في تاريخنا الحديث، منذ دخول المايكروفون والراديو إلى تحريم الصور الفوتوغرافية، وطمس الصور على علب (الشامبو)، ورمي (الدشوش) ببنادق الصيد، وحلق شعر الشباب بالآلات الحادة بالإجبار، ثم مطاردة النساء في الأسواق، وإجبارهن على وضع العباءة على رؤوسهن، وإخفاء وجوههن، وتضييق فتحات العينين في البرقع إلى حدود القرنية.
وأخيراً التهديد بالدعوى على وزير العمل بالسرطان؛ لأنه اجتهد حسب النظام في إيجاد فرص عمل للمرأة، وكأنهم من دون الناس جميعاً أقرب لمنزلة الله - عز وجل - وكأن الله تبارك وتعالى ينتظر طلباتهم لإلحاق الأذى بعباده المخطئين حسبما يعتقدون، وفي ذلك منافاة للخطاب القرآني، وقد قال تعالى مخاطباً الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا رهبانية في الإسلام”، والرهبانية هي مجموعة من التنظيمات المكونة من فئات تعيش في طرق أو مبادئ خاصة بمنأى عن منهج الاعتدال في المجتمع، ووفقاً لتعاليم دينية مشددة، وتنطلق أعمالها من خلال نظرتها السلبية للمرأة.
يتحدث الشيخ سفر الحوالي، الذي يُعد أحد رموز التيار السلفي المحافظ، عن خلفية ظهور الرهبانية في النصرانية، ويرجعها إلى عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة كأحد التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، وموجزها أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة “شجرة المعرفة!” فعاقبه الله بالطرد من الجنة وأسكنه التراب، وظل الجنس البشري يرسف في أغلال تلك الخطيئة أحقاباً متطاولة، حتى أنزل الله ابنه - تعالى على ذلك علواً كبيراً - ليُصلب فداءً للنوع الإنساني. ويتابع الشيخ في شرحه “ولما كانت المرأة - حسب رواية سفر التكوين - هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم.. ومن ناحية أخرى تولد عن ذلك الشعور المستمر بالخطيئة أن قنط كثيرون من رحمة الله، فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة حتى تظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والمترهبين فيه”.
ولو تأملنا ما يحدث للمرأة في المجتمع السعودي لوجدناه رمزاً للخطيئة في المجتمع، وأن فسادها وتبرجها بوصفها أنثى يؤدي إلى خطيئة الرجل، ومن ثم خروجه من رحمة الله، ملثما أخرجت حوى آدم عليهما السلام من الجنة إلى الدنيا، وفي ذلك نظرة رهبانية متطرفة، تخالف المبدأ القرآني الخالد {كل نفس بما كسبت رهينة}، الذي لم يفرق بين خطيئة الرجل وإثم المرأة، ولم يحمِّل الدين الإسلامي المرأة خطايا الرجل وانحرافه، ولكن كل نفس حمَّالة لما كسبت. وما نسمعه من الخطاب الديني المعاصر منذ عشرات السنين يدور في أغلب محاوره حول غواية وإغواء المرأة، وعلى رمزية تمثيلها للخطايا في المجتمع، وأنها سبب الانحراف والجريمة الأخلاقية بين الذكور.
وأشار الشيخ الحوالي في موقعه إلى صفة أخرى للرهبانية “فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة حتى تظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والمترهبين فيه”، وقد شهدنا ذلك أيضاً كثيراً من الممارسات المشابهة في المجتمع، حين انتقل كثير من المنحرفين في سلوكهم بسبب الخطاب الديني من متمرد يمارس المحرمات ومطارَد من العدالة إلى تائب متسلط يداهم خصوصيات الناس، ويمارس أساليب الإرهاب الديني كافة في المجتمع من أن أجل أن يِثأر من ماضيه ومن شعوره بالذنب المستمر بالخطيئة، وليكفر عن خطاياه من خلال التنكيل بمن يعتقد أنهم يمارسون الخطيئة، وتلك رهبانية وأساسها الخطاب التحريضي ضد الخطيئة الإنسانية.
ما يمارسه هؤلاء من إرهاب ورهبانية يحتاج إلى مراجعة نقدية من قِبل رموز الفكر الديني، كذلك علينا ألا نستمر في نفي وجود رهبانية معاصرة بين المسلمين، فملامحها وأفكارها وممارساتها بينة، ولا تحتاج إلى معاناة من أجل إثباتها، ولكن تحتاج إلى قوانين تضع حدًّا لها، وقبل ذلك تستدعي مواجهة ثقافية من أجل تفكيك خطابها التحريضي والرهباني.