قدر العالم الثالث أن يظل رهين عقدة الآخر.. عندما يتحدث، يتقمص لغة العالم الأول، وعندما يفكر، يحاكي منطقه وشخصيته، حتى أنك تجد رجال العالم الثالث يعاملون رجال العالم الأول على أنهم شخصيات فخرية، يستحلبونها رضىً أو تصريحاً يبارك مظهراً واحداً من مظاهر حياتهم، بينما تمر عليهم مشاهد وإنجازات - كان لا بد أن تحفظها الذاكرة الوطنية - مروراً عابراً رتيباً.
كما أن قدر العالم الثالث أيضاً أن يئن من تحديات تنموية معقدة، تستنزف طاقاته وتحد من آماله، وتفرز تلك التحديات في كل دولة من دوله فئة تدعي الغلبة الفكرية، وترفع الرايات الغالبة، تارة اشتراكية، وتارة ليبرالية، وتارة أخرى تقدمية أو دينية. إلا أن الغلبة تبدو - في هذه الأيام - لفئة ترفع أسهل الشعارات قولاً وأعقدها تطبيقاً.. شعار الحقوق.
ومن بيننا ظهرت جوقة من أرباب المصالح المشروعة و(المشروخة)، تحمل رايات الحق العام، فئة تجد في حوارات الدساتير والسلطة والمؤسسات، في المجالس العامة والخاصة، ثملها الفكري وشبق التفوق على مهاوي الجموع الكادحة الجاهلة. وقد ساهم الإعلام الجديد في ترسيخ (زواج المتعة) هذا بين تلك الفئة والحقوق، إلا أنه خلق أيضاً مساحات جعلت كشف هذا الزواج أمراً غاية في البساطة، لمن يستدعي التدبر لا العاطفة في تأملاته.
وليس السؤال: أهي الإثارة أم المصلحة تلك التي يبحث عنها أرباب المصالح المشروخة، فكل الطرق مشروعة، إلا أن السؤال الحقيقي هو عن هؤلاء الذين ترعى مصالحهم فعلاً.
إن التحدي الذي ظهر مع الإعلام الجديد أنه جعل الفضاء فضاء شعوبياً بواحاً، فكان لزاماً على السابح فيه أن يدني خطابه إلى الخطاب الشعبي، فهل من مشهد أكثر شموخاً من مشهد الدفاع عن حقوق المكلومين، وهل من بطل في ذلك المشهد كذا الصولة واللسان في وجه الرموز الباغية!؟
إن مصلحة الأوطان في كل زمن تقتضي أن تسود فيها الفئة الواعية التي تسترشد بالحكمة وتتسم بالاتزان، وكلما كانت التحديات أعمق كانت خطوات معالجتها أصعب وأصعب. وإن المراهقة السياسية - في (ربيع) الشعوب وباقي فصولها - ظاهرة مفزعة تستدعي التحذير، فما أسهل الادعاء وما أصعب العمل. وإن نظرة متأملة في كثير من المجتمعات تستدعي إلى الذهن صورة محزنة، طقوس إحباط موسمية لا تكاد تخرج من منحدر إلا وتلج آخر، وحالة حنق شديدة تحبط الأب والأخ والابن والحفيد - فجميعم فيها ملعونون.
إن تجربة العالم الثالث في التنمية صعبة شائكة، وكم من شعوبها من لم يصل بعد إلى الاعتراف بالحقوق ورسم العقد الاجتماعي، فما بالك بالبدء في (ترف) الحديث عن المؤسسات. إلا أن بعض تلك الشعوب قد استكملت - في تصور أرباب المصالح فيها - تحديد معالم العقد الاجتماعي، وكانت المحصلة عقود - لا عقداً واحداً - من الحقوق الممسوخة كل يحمل فيها راية من الشعارات الزائفة وسيفاً من الحيل والدسائس، لا تجمع بينها مصلحة ولا رابط. وكان لزاماً في خضم ذلك أن يسند الخيمة وتد يحميها من الانهيار... وتد تعلق عليه المصلحة الوطنية، في كل مرة يتنكر للمصلحة الوطنية مدعوها من الهواة والمراهقين والمتمتعين!
Towa55@hotmail.com@altowayan