|
عرف عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حدته وقوته وصلابته في الحق من غير مجاوزة للحد الذي يدخل في دائرة الظلم؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وتلك الحدة ظهرت في كلامه فأثرت فيه أيما تأثير؛ فكان حينما يتكلم كأنما ينحت من صخر؛ وربما استغلقت بعض جمله من قوتها ومتانتها.
وتلك الحدة والقوة كان يقهرها رحمه الله بالحلم ويزمها بزمام الصبر على جهل الجهلاء، وطيش السفهاء.
ومن الخطأ عند من يقرأ سيرة شيخ الإسلام رحمه الله أن يتغافل عن هذا الجانب؛ ويركز على الجانب الآخر؛ بل ويجعله هو الأصل والآخر فرع، فهذا لون وذاك لون آخر.
وقد ذكر تلامذته ومترجموه مواقف شتى تنبئ عن حلمه وصفحه وتجاوزه عن خصومه ما يدهش الألباب، ويتعجب منه المنصفون، مما يظهر جلياً أن هذا الجانب الخلقي الرفيع لدى شيخ الإسلام رحمه الله لم يكن نشازاً أو نادراً. ومن ذلك ما ذكره تلميذه الإمام ابن عبدالهادي رحم الله في كتابه «العقود الدرية» حيث قال:
وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلس بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم؟، قال: ففهمت مقصوده، وأن عنده حنقاً شديداً عليهم لما خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك. أما أنا فهم في حِلّ من حقي ومن جهتي وسكّنتُ ما عنده عليهم.
قال فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف -قاضي المالكية- يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه ولما قدر علينا عفا عنا.
ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين وعاد إلى بث العلم ونشره؛ والخلق يشتغلون عليه ويقرأون ويستفتونه ويجيبهم بالكلام والكتابة، والأمراء والأكابر والناس يترددون إليه، وفيهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع، فقال: قد جعلت الكل في حل مما جرى».
فهذا الموقف ومثله كثير يبين ما اتصف به شيخ الإسلام رحمه الله من حلم على مخالفيه؛ وعدم التشفي في الانتقام منهم لنفسه؛ رغم ما لحقه من أذاهم؛ وما صار إليه بسبب وشايتهم في الحبس والضرب.
بل لما قدر عليهم ومكنه الله منهم لم يزد على أن عفى عنهم، بل زاد على أن دافع عنهم أمام السلطان لما أراد الانتقام منهم.
فأين هذا الخُلق ممن يتصيد الأخطاء ويفرح بالزلات؛ ويسعي بإنزال الضرر على كل من خالفه، ثم يتشدق بمتابعة هذا العلم الجهبذ. وانظر إلى هذا الموقف الآخر الذي يحكيه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى؛ والذي يحمل في مضمونه شفقة ورأفة للمخالفين قلّ نظيرها في البشر إلا في الأنبياء وأتباعهم على الحقيقة، فقال رحمه الله:
«وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه.
وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام.. فسُرّوا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضى عنه».
فلينظر المنصف إلى هذه الجوانب المضيئة من حياة شيخ الإسلام رحمه الله ليستبين له ما كان يتصف به من الشمائل الكريمة والخلال الحميدة، وتتكون له الصورة الواضحة لهذا الإمام الكبير.
* عضو الفريق العلمي في حملة السكينة